الخميس , 18 أبريل 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / الجامعات.. بُناة حضارة أم مُقدمو خدمة تعليمية؟

الجامعات.. بُناة حضارة أم مُقدمو خدمة تعليمية؟

الجامعات.. بُناة حضارة أم مُقدمو خدمة تعليمية؟

بقلم د. حسام بدراوى ٢٢/ ٢/ ٢٠١٦
ما الأغراض التى تُرجى من التعليم العالى فى أى أمة.. وماذا نطلب منه وله.. وقد يُخيل لنا أن الأمور واضحة فى أذهان الجميع، وهى غير ذلك حتى فى أذهان بعض المتخصصين. أيسر هذه الصور هو ما يقع فى وجدان أولياء الأمور والتلاميذ على الأغلب.. فهم يرون خريج التعليم العالى ذا مكانة اجتماعية أفضل، وأن شهادته تؤهل حاملها لهذه المكانة، ويرون التعليم العالى أرقى من أنواع التعليم الأخرى، بل إن هناك تقسيما نفسيا داخله، فيرون خريج الجامعة أرقى من خريج المعهد، وأن خريج المعهد أرقى من خريج التعليم الفنى، وبلا شك، أرقى من شهادة الثانوية العامة.

كذلك ترى هذه الأسر أن الدولة عبر تاريخها الحديث تتطلب شهادة التعليم العالى للتعيين فى وظائفها المهمة، وأنه يؤهل طلابه لشغل الوظائف، خاصة إذا كانت شهادات تعليم عالٍ ممتاز، والذى تمثله «كليات القمة» كما سماها المجتمع، أو أن الشهادة فى حد ذاتها جواز مرور اجتماعى، بغض النظر عن المعرفة أو المهارات التى من الواجب اكتسابها من هذا التعليم، ولا أستطيع أن أنكر هذه الصورة فى أذهان أصحابها، لأنها مستمدة من الواقع الذى يعيشون فيه وتجاربهم المتكررة خلاله.

فئة أخرى ترى الأمر من نظارة المصلحة الفئوية التى تمثلها النقابات.. فهذه نقابة الأطباء مثلا أو غيرها تود إغلاق الأبواب أمام التوسع فى كليات الطب أو غيرها، ليس من منظور الجودة المنتظرة أو صعوبة تكلفة إنشائها، ولكن من منظور أضيق من ذلك، وهو حماية الأطباء أو غيرهم من المهنيين الموجودين الآن.. فإذا كانت الحسابات الرقمية تقول إن عدد الأطباء مثلا بالنسبة للسكان يتماثل أو يقترب من المؤشرات التى اخترعها البعض فى لحظة من الزمان، إذن، فلنَحْمِ أطباءنا الموجودين الآن، ونمنع الشباب من تحقيق رغباتهم حتى وإن كانوا مؤهلين لها.. أى أن التعليم العالى عليه أن يتوافق ويحمى أصحاب المهنة، أطباء كانوا أو مهندسين أو تجاريين أو غيرهم من المهنيين.. ونغلق الباب أمام المستقبل لحماية الواقع الحاضر.. وكأن التعليم يأتى كرد فعل للواقع المهنى أو احتياجات السوق، وهو تصور قاصر ضيق الأفق، لأن التعليم العالى له منافع أخرى متعددة، تتجمع فى كونه قاطرة التنمية فى أى مجتمع.. فهو تعليم لا يأتى كرد فعل لحالة سوق العمل أو نسب البطالة أو حال مهنة من المهن فى لحظة زمنية بعينها.. ولكنه هذا النوع من التعليم الذى يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات.. يبنى الإنسان صانع الفرصة ومُحقِّقها وليس فقط المستفيد منها.

قليل من المثقفين يرون التعليم العالى من منظور مختلف، وهنا يأتى دورهم هم والعلماء فى طرح السؤال وتكرار الحديث عن إجابته فى المجتمع والإعلام وبين أعضاء هيئات التدريس، الذين ترسخت فى وجدان الكثير منهم عبر الزمن فكرة أداء الواجب كالموظف العام، وتقديم الخدمة التعليمية كما هو فى المقرر الموافق عليه من الوزارة أو المجلس الأعلى للجامعات. يأتى دور التنوير فى طرح السؤال، استجابة لما يحدث فى الجامعات ومؤسسات التعليم العالى فى العالم كله: هل نحن مُقدمو خدمة تعليمية أم بُناة حداثة وصانعو حضارة؟

هوية الجامعة

تولت الجامعات عبر القرون عددا من الوظائف الاجتماعية. ويشكل تنوع مثل هذه الوظائف الشخصية الفريدة التى تكتسبها الجامعة. وتحتاج كل الجامعات إلى «التكاثر» و«الانتشار» و«التطور» فى ذات الوقت، كما أنها تحتاج إلى معرفة أسباب التغير أو أسباب التمسك بالتقاليد. ولكى يتسنى لها القيام بهذا، عليها أن تتشكك فيما تم اكتسابه وتختبر أيضاً أنماط التفكير المختلفة الموجودة فى المجتمع، كما أن على الجامعة أن تقوم بالمخاطرة بتقديم كل ما هو غير متوقع للمجتمعات التى تستسهل بقاء الأمر كما هو عليه، بل تحارب التجديد والتغيير، حفاظا على الواقع الذى تم التعود عليه حتى ولو كان منتَقَدا.

وتجسد الجامعات عمليات التغيير، حيث إن دورها فى المجتمع هو ابتكار الجديد واستيعابه، ونقل وصنع المعرفة، وتحقيق التناغم والتكيف ما بين المعرفة وكيفية الحصول عليها واستخدامها فى وقتنا الحاضر، ومتطلبات المستقبل. وبناءً على هذا، فإن دور المؤسسات الأكاديمية يتأكد فى البحث والتدريس وتقديم العون لكل الأنشطة على أساس قدرتها على المعارضة «البعد الانتقادى» والموافقة «الحاجة إلى الالتزام».

وظائف الجامعة

يُفترض أنه فى كل مكان تحاول الجامعة تلبية أربعة أهداف، ألا وهى: الرفاهة والنظام والمعنى والحقيقة. ومن ثَمَّ تمثل هذه الأهداف مجتمعة سبب تأسيس ووجود هذه الجامعات.

فالجامعة تركز على رفاهة المجتمع إما بإعداد طلابها للتكامل البنَّاء داخل سوق العمل، وذلك من خلال اكتساب المعرفة والمهارات، التى تشكل أداة لإحراز التقدم وتحقيق التطور، أو تنمية مجال البحث والابتكار لديها، لتعزيز القوة الاقتصادية لأمة بعينها. ويكمن الهدف من وراء ذلك فى تلبية الاحتياجات الاجتماعية بشكل فعال واقتصادى. ولذلك فإن الهدف المنفعىّ للاستثمارات- التى توجهها الحكومات والأطراف المعنية المهتمة بتنظيم الكيان المادى لمجتمعاتها إلى جامعاتها- يصبح مبرراً، فهناك عائد محسوس ويمكن قياسه على الأفراد وعلى المجتمع.

أما بخصوص النظام الاجتماعى فإن الجامعة تساعد المجتمع كى يكون «مجتمعا متناسقا» تتبادل فيه المجموعات المختلفة المراجع، وتجعل من العلم والمعرفة والمهارات الفنية أمراً ملائماً ومناسباً. وهذا يتطلب وضع المهارات ومجالات المعرفة المتصلة بالتكامل المدنى واستخدامها فى التدريس وتكييفها مع الاحتياجات الاجتماعية الحالية. وكذلك يحدد التعليم العالى «مؤهلات» الأشخاص، وتصبح شهادات التعليم العالى والدراسات العليا بأنواعها المختلفة جواز مرور هؤلاء إلى المناصب المحترمة ذات الرواتب المناسبة الموجودة على درجات السلم الاجتماعى المختلفة، فالجامعات أهم مصدر لتنظيم المؤهلات العليا.

وتتناول الجامعة فى قضية المعنى مسلمات الحياة كما يعرفها المجتمع، وتبحث فى وجهات النظر العالمية المختلفة، القديمة والجديدة، وتعيد النظر فى المراجع الفكرية المستقرة والمقبولة، وتعيد تنظيم البيانات وفقاً للمعايير الجديدة والمختلفة سواء كانت فكرية أو أخلاقية أو جمالية. ويكمن إثراء المعنى فى الإلمام الشامل والكامل لهذه المعارف ووجهات النظر المختلفة والتشكك فى المسلمات وإعادة تنظيم العالم كما نعرفه فى ضوء ذلك، وتترتب على هذا قدرة الجامعة على الإشارة إلى الإصلاحات الممكنة فى المجتمع، وهو ما يُعتبر الأساس لأى نقلة حضارية تقوم بها الأمم.

وعند تناول الجامعة مسألة البحث عن الحقيقة، فإنها تستكشف المجهول بوصفه النظام الطبيعى الذى تُشكل الإنسانية جزءاً منه. ولا يكمن الهدف فى هذا فى محاولة هدم أسوار الجهل فحسب، بل للتساؤل العميق فى مدى فهم الإنسان للكون المحيط به. وتلتقى مراحل هذا الجهد مع أسلوب الاستدلال العلمى الواجب أن تنتهجه الجامعات فى دراسة العلوم المختلفة، والذى يشمل التشكك والتخيل والاستيعاب، وهى عملية تشوبها المخاطر أحيانا، حيث إنها قد تؤدى بنا إلى الخطأ والفشل، وهى أمور يقبلها العلم مادامت تتم بمنهج الاستدلال العلمى والبرهان، ولكن يظل البحث عن الحقيقة مدخلا أساسيا لوظيفة الجامعة.

خصوصية الجامعة

وإن كانت النماذج المذكورة أعلاه لها مغزى فنستطيع القول إن الجامعات تُبنى على محورين أحدهما ينتقل من التركيز على الوجود المباشر «احتياجات الرفاهة» إلى الواقع الجديد «الدعوة للبحث عن الحقيقة»، والآخر ينتقل من المعارضة «الجانب الانتقادى» إلى الموافقة «جانب الالتزام ومساهمة المؤسسة فى الإنتاجية الاجتماعية». وتؤدى الجهود المبذولة لتحقيق الاتساق ما بين تلك الوظائف دائماً إلى البحث عن وحدة الهدف كما يظهر فى كلمة uni-versitas نفسها.

وتُعد عملية التحديث هى الوظيفة المنوطة بالجامعات فى المجتمعات النامية أو شبه النامية، كما تم إسنادها لها فى الكثير من الاقتصادات المتقدمة. ويشمل هذا الهدف الوظائف الأربع للجامعة كما جاء فى هذه المقالة، وحتى يتسنى لنا تعريف الحداثة وفهم مضامينها المؤدية إلى التغير الاجتماعى والتطور العلمى، ينبغى للجامعات- بوصفها من المؤسسات الضرورية للأمة ولبنة للتطور الثقافى للمنطقة- أن تقوم بمسح البيئة التى تنشأ فيها، وأن تدرك تعقيدات التغيير المحتملة، «وهذا يعنى الحرية الأكاديمية». ويجب على الجامعات أن تضع رؤيتها تجاه التزاماتها نحو هذا التحول، وأن تحدد كيفية استخدام أصولها بأفضل السبل الممكنة، «وهذا يعنى الاستقلالية المؤسسية». وعمليا يعنى ما تقدم تحديد الاستراتيجيات متوسطة الأمد، التى تؤدى بها إلى وضع سياسات مؤسسية يمكن اختبارها وقياسها والتثبت منها، «ويفرض هذا توافر المساءلة».

أود أن أنهى هذه المقالة بهذه المقولة للدكتور طه حسين، الذى ألهمنى فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر».. يقول الدكتور- منذ أكثر من سبعين سنة:

«إن الجامعة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفا، بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا، بل يعنيه أن يكون منميا للحضارة، فإذا قصَّرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه، والإنسانية التى تعمل لها، وإنما هى مصنع من المصانع، يُعد للإنسانية طائفة من رجال العمل، محدودة آمالهم، محدودة قدرتهم على الخير والإصلاح».

التعليقات

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *