الإفتاء والدستور والدولة المدنية.. من يملك حق الإلزام؟
بقلم د.حسام بدراوي
فى زمن تتقاطع فيه السياسة بالدين، ويُعاد فيه تشكيل الأدوار داخل المؤسسات الدينية والدستورية، تبرز الحاجة الملحة لإعادة التأكيد على المبادئ الدستورية التى ارتضاها الشعب المصرى فى أعقاب ثورته.
لقد نصت ديباجة الدستور المصرى لعام ٢٠١٤ على أن «مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة». وهذه العبارة ليست مجرد إنشاء لغوى، بل تعكس رؤية تأسيسية تؤكد أن المرجعية العليا فى شؤون الحكم والتشريع هى الدستور والقانون، لا الفتوى أو الاجتهاد الدينى، مهما بلغ قَدرُ الجهة المُصدِرة لها.
شهدت السنوات الأخيرة إعادة تفعيل دور هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وهى مؤسسة لها مكانة تاريخية وعلمية مرموقة. إلا أن التعديلات القانونية الأخيرة، التى منحتها صلاحيات توجيهية فى تنظيم الفتوى، بل وفى اختيار شيخ الأزهر نفسه، تطرح أسئلة حول التوازن بين المرجعية الدينية والدستورية فى الدولة.
ففى حين تُقدَّر الهيئة كمرجعية علمية تُثرى النقاش الدينى، يجب أن يُفهم دورها فى إطاره الطبيعى: استشارى وإرشادى غير مُلزم، ما لم يتم تحويل اجتهاداتها إلى قوانين عبر المؤسسات التشريعية المنتخبة.
قانون تنظيم الفتوى.. وتضييق الاجتهاد
القانون الجديد الصادر لتنظيم عملية الإفتاء يمنح هيئة كبار العلماء صلاحية ضبط من يجوز له إصدار الفتوى العلنية، ويشترط موافقة الأزهر على من يُمنح رخصة للفتوى فى وسائل الإعلام. هذا يُثير سؤالًا جوهريًا: هل نحن بصدد احتكارٍ رسمى للمعرفة الدينية؟ أم محاولة لضبط فوضى الفتاوى التى اجتاحت الفضاء العام؟
فى كلتا الحالتين، يجب أن نتذكر أن الفتوى ليست مُلزمة دستوريًا. فالمواطن المصرى غير مطالب شرعًا أو قانونًا باتباع أى فتوى، سواء صدرت من الأزهر أو من دار الإفتاء أو من غيرهما، بل هو مُلزم فقط بما يصدر من قوانين وتشريعات نافذة، يُقرها البرلمان وتُفسرها المحكمة الدستورية العليا.
مرجعية القضاء لا الفتوى
الدستور المصرى فى مواده، (المادة ١٧٥)، حسم الجدل حول الجهة المخولة بتفسير النصوص الدستورية، حين نص صراحة على أن المحكمة الدستورية العليا هى السلطة الوحيدة المختصة بتفسير القوانين والنصوص. فلا يجوز إذًا لأى جهة دينية، مهما علت مكانتها، أن تحتكر تفسير التشريعات أو أن تفرض رؤيتها الفقهية كقاعدة مُلزمة.
هذا ليس تقليلاً من شأن العلماء، بل حماية لهم أيضًا من التسييس، وضمان لوضع الدين فى مكانه الرفيع: كمصدر هداية لا أداة هيمنة.
فى الدولة المدنية، السيادة للشعب، والتشريع لممثليه، والمرجعية هى القانون، لا الفتوى. وفى هذا السياق، فإن أى محاولة لإعادة إنتاج شكل من أشكال «ولاية الفقيه» بغطاء مؤسسى جديد، ستكون خروجًا على العقد الدستورى، وارتدادًا عن مكاسب الدولة الحديثة.
المدنية لا تعنى العداء للدين، بل تعنى الفصل بين الدينى والتشريعى، مع احترام كامل لقيمة الدين كرافد أخلاقى وثقافى، وليس كأداة لإصدار أو تنفيذ التشريعات.
إن إحياء دور العلماء فى التوجيه الدينى أمر محمود، شرط أن يبقى ذلك ضمن الحدود التى رسمها الدستور. ولا يجوز لأى مؤسسة، دينية أو غيرها، أن تتجاوز سلطاتها وتفرض وصايتها على العقل أو على القانون.
من هنا، فإن الضامن الحقيقى لوحدة المرجعية القانونية فى مصر هو التمسك بالدستور، واحترام دور المحكمة الدستورية، والتمييز الواضح بين ما هو دينٌ لله، وما هو حكمٌ للناس.
الدولة المدنية التى نقصدها ويقصدها الدستور، وتُبنى عليها رؤية البلاد للمستقبل لها حكومة تحافظ وتحمى كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية.
وهناك عدة مبادئ ينبغى توافرها فى الدولة المدنية والتى إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة. أهمها أن تقوم تلك الدولة على العدالة والسلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، بحيث إنها تضمن حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن ديانتهم.
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أى فرد فيها لانتهاك حقوقه من قِبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هى سلطة الدولة من خلال آليات ناجزة للقانون والتى يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تُهَدد بالانتهاك. فالدولة هى التى تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.
من مبادئ الدولة المدنية الثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، فالدولة المدنية لا يوجد بها تعسف ولا نقض للتعاقدات لصالح فئة عن فئة. وتتميز الدولة المدنية بتكافؤ الفرص بين المواطنين والمؤسسات بأسس معلنة، كذلك الإيمان وتطبيق مبدأ المواطنة والذى يعنى أن الفرد لا يُعَرف بمهنته أو بدينه أو إقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعَرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أى أنه عضو فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادى الدين أو ترفضه بل إن الدين يظل فى الدولة المدنية عاملا فى بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذى تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التى تحول الدين إلى موضوع خلافى وجدلى وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.
أما لماذا نريد حكما مدنيا بالتعريف الذى نذكره فى رؤية المستقبل وتطبيقاً لفلسفة الدستور، فذلك لأن تداول السلطة، والرقابة على مؤسسات الدولة والتوازن بين السلطات هو الحامى للمجتمع ككل وللأفراد وحقوقهم المذكورة فيه، فلا حكم باسم الله عن طريق وسطاء يضعون أنفسهم وكلاء بين الإنسان وربه ولا بأى فرد أو مجموعة تضع نفسها فوق المساءلة الدستورية الدورية وتتعرض لتداول السلطة فلا تتجبر ولا تتسيد على المجتمع بأى حجة.