الجمعة , 13 يونيو 2025
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / الرؤية المزدوجة‎: ‎من بغداد إلى طهران اليً تل أبيب بقلم: د. حسام بدراوي

الرؤية المزدوجة‎: ‎من بغداد إلى طهران اليً تل أبيب بقلم: د. حسام بدراوي

الرؤية المزدوجة‎: ‎من بغداد إلى طهران اليً تل أبيب
‎العدالة حين تُصبح انتقائية تفقد معناها وجدواها . لقد نشأت في بيئة تُعلّم أن ‏العدل هو ميزان الحياة وأنه لا بقاء لحضارة ما لم يكن العدل ركيزتها
‎ :‎وقرأت، صغيرًا، قول أفلاطون
“إن ‏العدالة هي أن يأخذ كلٌّ حقه، لا بحسب قوته، بل بحسب استحقاقه”‎
لكن حين كبرت، ورأيت كيف تُدار شؤون العالم، صرت أطرح سؤالًا وجوديًا مريرًا‎:
هل العدالة قيمة كونية حقًا؟ أم أنها قناعٌ ترتديه الدول العظمى حين يناسبها، وتنزعه ‏متى اصطدمت به مصالحها؟‎
كمفكر مهتم بالسياسة الدولية، وكطبيب يعرف أن التشخيص الخطأ يؤدي إلى كارثة، ‏أجد أن ازدواجية المعايير في القضايا النووية، مثالٌ فجٌّ على تهاوي القيم أمام منطق ‏القوة‎.
من بغداد، إلى طهران، إلى تل أبيب‎… ‎تتغير المعايير، وتتشكل القوانين على هوى ‏المصالح، ويُعاقب الضعيف، ويُكافأ من يملك الحظوة عند الكبار.‏
لقد كانت العراق أكذوبة كبرى بثمن دموي حيث
في عام ‏‎2003‎‏ غزتها الولايات المتحدة ، بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، في ‏مقدمتها النووية‎. ‎ورغم عدم وجود أي دليل حقيقي، شُنت حربٌ أدت إلى مقتل ما ‏يقرب من ١.٢ مليون عراقي، وفق دراسة تمت عام ٢٠٠٨ ‏
، وتدمير بنية الدولة، وتمهيد الطريق لفوضى لا تزال مستمرة‎.
لاحقًا، اعترف مسؤولون أمريكيون ‏‎— ‎منهم كولن باول نفسه ‏‎— ‎بأن المعلومات ‏كانت خاطئة‎. ‎ومع ذلك، لم يُحاسب أحد على هذا الخراب، لا محليًا ولا دوليًا.‏
إيران، بالمقابل، وقّعت على معاهدة عدم الانتشار النووي ‏‎(NPT)‎، وتخضع منشآتها ‏لتفتيش منتظم من الوكالة الدولية للطاقة بل أن تقرير الوكالة الذرية ( ‏IATA)‎‏ في ‏‏٢٠٢٠ أشار إلى ‏‎”‎عدم وجود أي أدلة على انحراف البرنامج النووي عن المسار ‏السلمي‎” [IAEA Report, Feb 2020].
ورغم ذلك، فإن الضغوط والعقوبات لا تتوقف‎. ‎الاتفاق النووي الذي تم التوصل ‏إليه عام ‏‎ ‎‏٢٠١٥ تم تمزيقه من ‏‎(JCPOA) ‎
طرف واحد عام ٢٠١٨ من قبل إدارة ترامب، دون أن تنتهك إيران بنوده حينها ، ‏‎ ‎فهل المشكلة هي النووي، أم استقلال القرار السياسي الإيراني؟
إسرائيل من جانب ثالث علي الجانب الآخر هي ‏‎ ‎ترسانة نووية بلا مساءلة حيث ‏تمتلك ما يُقدَّر ب بثمانين اليً تسعين رأسًا نوويًا، بحسب معهد ستوكهولم الدولي ‏لأبحاث السلام (SIPRI)، وتُشير تسريبات العالم النووي الإسرائيلي موردخاي فعنونو ‏إلى وجود مفاعل نووي متكامل في ديمونة‎. ‎إسرائيل لم توقّع على معاهدات ، ولا ‏تسمح لأي رقابة دولية على برنامجها، ولا تُواجه أي ضغوط أو عقوبات‎.
السؤال هنا ليس لماذا تملك إسرائيل سلاحًا نوويًا، بل‎: ‎لماذا هذا الصمت الغربي التام ‏تجاهها؟ ولماذا يُجرّم الأمر على دول، ويُغضّ عنه الطرف لدى الحليف المدلل؟
أمثلة التناقض لا تقتصر على منطقتنا‎. ‎كل من الهند وباكستان تمتلكان أسلحة نووية، ‏وقد أجرتا تجارب علنية في عام ١٩٩٨ ورفضتا الانضمام إلى معاهدة ‏NPT. ‎ومع ‏ذلك، نالت الهند اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة‎ ‎عام ٢٠٠٨ ، رغم عدم ‏التزامها بالنظام الدولي، مما يعكس ازدواجية أخرى‎: ‎النووي مقبول إن كنت حليفًا، ‏مرفوض إن لم تكن‎.‎
ان النفاق السياسي يؤثر على مصداقية الخطاب الغربي حيث
تتكرر هذه الازدواجية في ملفات أخرى مثل ‏‎ ‎حقوق الإنسان التي تُستخدم ضد ‏خصوم بعينهم، وتُغضّ عنها النظر مع حلفاء قمعيين‎. ‎
الديمقراطية تُفرض في بعض الدول بالقوة، وتُدعم الاستبداد في دول أخرى‎. ‎هذا ‏النفاق يُضعف مصداقية الخطاب الغربي عالميًا، ويُغذي خطاب التشكيك، لا فقط ‏في النوايا، بل في القيم نفسها.اننا يجب أن نسعي اليً نحو عدالة كونية لا انتقائية ‏والسياسية
المطلوبه ليس تبرير امتلاك السلاح النووي لأي جهة، بل المطالبة بتطبيق قواعد ‏موحدة على الجميع‎. ‎ما دامت إسرائيل تملك ترسانة نووية، فيجب إخضاعها للرقابة، ‏أو على الأقل مساءلتها كما يُساءل غيرها‎.
فلا عدالة مع الاستثناءات، ولا نظام دولي حقيقي إن لم يكن قائمًا على تكافؤ المعايير ‏لا على محورية المصالح.‏
فالنواجه التناقض بشجاعة
فليست دعوة هذا المقال إلى الكراهية أو العداء، بل إلى الصراحة والشجاعة‎.
فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من العسكرة والخوف، بل إلى نظام أخلاقي عادل‎.
وإذا استمر منطق القوة في رسم حدود العدالة، فسنصحو يومًا على نظام دولي فقد ‏شرعيته‎… ‎ومجتمعات فقدت الثقة في إنسانيته وندخل في فوضي قد تقضي علي ‏البشرية
حين تنفصل السياسات عن الضمير الإنساني
فإن الخطر الحقيقي على العالم اليوم لا يكمن فقط في سباق التسلّح أو التهديد ‏النووي، بل في انفصال السياسة عن الأخلاق، والحكومات عن شعوبها‎.
تتحدث الدول العظمى عن السلام، وتمارس الهيمنة ، ترفع شعارات حقوق الإنسان، ‏وتغض الطرف عن المذابح حين تكون المصلحة هي الحكم‎.
ألم يكن من الأجدر أن تُبنى العلاقات الدولية على قيم مشتركة مثل الكرامة، ‏والمساواة، والحق في الحياة؟‎
أليس من المفارقة أن يتحدث الغرب عن ‏‎”‎نظام عالمي قائم على القيم‎”‎، بينما يغضّ ‏الطرف عن الظلم إن كان من حليف، ويثور فقط حين يكون الخصم هو الفاعل؟‎
تُظهر استطلاعات الرأي في كثير من الدول الغربية تزايد فجوة الثقة بين المواطنين ‏وحكوماتهم‎. ‎‏ الحقيقة ان وقفة المجتمعات الغربية ضد إبادة الشعب الفلسطيني ‏أظهر أن الناس تتعاطف مع قضايا الشعوب المضطهدة، بينما حكوماتها تتخذ ‏مواقف نفعية بحتة، بلا التزام بالقيم التي تدّعي الدفاع عنها‎.
وهنا يظهر خلل جوهري‎: ‎الناس أفضل من ساستهم، والضمير الجمعي للشعوب لا ‏ينسجم مع قرارات أنظمتها السياسية‎.
ما أحوج العالم إلى تذكير نفسه بأن العدالة ليست أداة سياسية، بل قيمة وجودية‎. ‎وأن من يستخدم القيم كذريعة لفرض الهيمنة، يفقد نفسه أولًا، ثم يفقد ثقة العالم ‏ثانيًا‎.
فمن دون التقاء السياسة بالضمير، والقوة بالحكمة، والشرعية بالأخلاق، سنظل ندور ‏في دائرة مفرغة من التناقض، والدم، والخذلان.‏

التعليقات

التعليقات

عن د. حسام بدراوي

د. حسام بدراوي
عن دكتور حسام سياسي ومفكر وطبيب بارز فهو رئيس قسم أمراض النساء والتوليد الأسبق في كلية الطب جامعة القاهرة، تلقي الدراسات العليا أعوام 1979 إلى 1981 في الولايات المتحدة الأمريكية، انتخب عضو في البرلمان المصري ورئيساً للجنة التعليم والبحث العلمي في بالبرلمان منذ عام 2000 حتى 2005، السياسي حسام بدراوي عرف بمواقفه المستقلة ومن القلائل الذين اتفق على نزاهته الجميع من كافة التيارات السياسية، ففي عصر الرئيس الأسبق مبارك كان يلقب بالعاقل داخل صفوف الحزب الوطني، حيث كانت نداءاته وطلباته السياسية تتفق بقدر كبير مع النداءات الداعية للانفتاح السياسي والديمقراطي في مصر، فكان ضد تمديد حالة الطواري، واعترض على انفراد الحزب الوطني بالتعديلات الدستورية، خلال ثورة 25 يناير 2011 ، لعب دوراً سياسياً هاما، حيث عبر منذ اللحظة الأولى على حق المتظاهرين في مطالبهم، ودعا الحكومة إلى الاستماع والاستجابة لهم، ما جعل مبارك مع تصاعد الاحداث لما له من شعبية بتعيينه أمينا عاما للحزب خلفا لأعضاء هيئة المكتب وخلال تلك الفترة عبر عن رأيه السياسي لمبارك بضرورة التنحي، وهو ما دفعه للاستقالة من الحزب بعد 5 أيام من تعيينه يوم 10 فبراير معلنا اختلافه السياسي مع القيادة السياسية في طريقة التعامل مع المتظاهرين ومطالبهم في حكم الإخوان فظلت مواقفه واضحة منذ اللحظة الأولى برفضه الدولة الدينية التي اعتبرها تريد تلويين الشعب بلون واحد، واعتبر قرار الرئيس المعزول مرسي بعودة مجلس الشعب ترسيخ للديكتاتورية المؤيدة من الولايات المتحدة، وكان من أوائل المنددين بتوغل سلطة مرسي على سلطة القضاء، مستنكرا محاصرة المحكمة الدستورية العليا من قبل مليشيات الإخوان أيد د حسام بدراوي حركة تمرد مع بدايتها، وأعلن أن إسقاط حكم الإخوان أصبح ضرورة ومخاطرة لابد منها قبل أشهر من ثورة 30 يونيو، مؤكدا أن الجيش سيقف بجانب الشرعية المستمدة من الشعب.. في ٢٠١٦ تم اختياره رئيسا للجنة الاستشارية لمشروع التعليم أولا ورئيسا للجنة وضع رؤية مصر ٢٠٣٠ في التعليم وفي ٢٠٢٢ تم اختياره مستشارا للحوار الوطني لرؤية مصر ٢٠٣٠