العقل والإيمان : تكامل أم تناقض؟
بقلم: د. حسام بدراوي
في زمن تسارع فيه العلم، وتقدمت فيه التكنولوجيا لتكشف لنا أسرار الخلية والمجرة، يبدو السؤال عن مكانة الإيمان ملحًّا.
هل ما زالت هناك مساحة للإيمان في عالم تُسيّره الأرقام والمعادلات؟ وهل الإيمان نقيض للعقل، أم شريك له في رحلة البحث عن الحقيقة.
إن تعريف الإيمان هو تصديق ما ليس له برهان ، وليس له دليل علمي يمكن اختباره بشكل مباشر.
هو الثقة بما لا يُرى، واليقين بما لا يُلمس.
لكن، هل هذا يعني أنه عكس العقل؟ لا أعلم ولا أظن.
حدود العلم، ومساحة الإيمان تحتاج اليً التفكير فقد أجاب العلم عن أسئلة كثيرة: كيف وُلد الكون؟ كيف يعمل المخ ، ؟ كيف نتواصل عبر الضوء؟ وماهية الطاقة ؟ وغيرها وغيرها ،لكن ثمة أسئلة لا يجيب عنها العلم:
لماذا نحن هنا؟
هل للحياة معنى؟
ماذا بعد الموت؟
هذه المساحات هي حيث يبدأ الإيمان، لا لأنه يرفض العقل، بل لأنه يتجاوزه.
ومع ذلك، لا بد أن نعترف بأن مساحة الإيمان تتسع غالبًا عند قليلي العلم، حيث تكون الحاجة للطمأنينة أكبر من قدرة العقل على التحليل.
لكن مع نضوج العقل البشري وتراكم المعرفة، تبدأ الأسئلة التي كان الإيمان يجيب عنها في إيجاد تفسيرًا علميًا لكل شئ تقريباً، مما يُغيّر طبيعة الإيمان ولكن لا يُلغيه ، فيصبح الإيمان أكثر وعيًا، وأقرب إلى التأمل الفلسفي منه إلى التسليم الغيبي.
في الفلسفة الإسلامية قال ابن رشد وأكد أن الحقيقة لا تناقض الحقيقة، وأن العقل والوحي يتكاملان ، أما الغزالي، فبيّن أن للعقل حدودًا، وأن القلب قد يدرك ما لا يدركه المنطق.
وقد كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم في الدعوة إليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، وتوالت آيات القرآن الكريم بما يضيق المجال عن حصره في الدعوة إلى بيان فضل العلماء؛ قال تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، وقال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ،وقال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) .
في الفكر المسيح يري توما الأكويني أن الإيمان والعقل هديتان من الله، ولا يتناقضان، بل لكل منهما مجاله.
العقل يوصلك إلى حدود البحر، والإيمان يدفعك إلى الغوص فيه.
أما الفيلسوف كيركغارد، فقد ذهب أبعد من ذلك، فقال إن الإيمان الحقيقي لا يُولد إلا حين يقف الإنسان عند حافة الهاوية، فيقفز بثقة دون أن يرى الأرض تحته، إنه قرار وجودي يتجاوز البرهان.
يختلف ذلك عن الفلسفات الشرقية ، ففي الهندوسية والبوذية لا يوجد فصل بين التجربة العقلية والروحية، بل يريان أن التأمل طريق إلى الحقيقة، وأن الإيمان ليس قيدًا، بل وسيلة لبلوغ الفهم الأعمق للوجود.
وأعتقد ان هناك توازناً مطلوباً، فلسنا بحاجة إلى استبدال العقل بالإيمان، ولا العكس.
فالعقل يسأل،و يشرح، والإيمان يُنير؛العقل يقودنا إلى حدود العالم، والإيمان يعطينا أملًا فيما بعده.
في الختام الإيمان ليس جهلًا، بل اختيارًا نابعًا من الوعي ، وليس ضعفًا، بل قوة روحية تدفع الإنسان نحو المعنى، خاصة حين يعجز التفسير العلمي عن أن يُهدّئ قلق الروح.
ومن هذا المنطلق، فإن الإيمان لا يناقض العقل، بل يكمله؛ فكما أن للعين حدودًا، فالعقل أيضًا له أفق يقف عنده… وهناك يبدأ النور الآخر اليً أن يظهر التفسير العلمي .
وانتقل بالقارئ اليً سؤال وجودي لا يفارقنا منذ فجر الوعي هو : من نحن؟ وما علاقتنا بما نفكر فيه، وبما نشعر به، وبما ينتظرنا بعد أن تُغلق أعيننا إلى الأبد؟
هداني تفكيري الي ثلاثية مترابطة تشكّل جوهر التجربة الإنسانية: القدرة المعرفية، و الوعي، وما قبل الحياة و ما بعد الموت، ليس من منظور علمي صرف، بل من زاوية فلسفية تستبطن الإنسان وهو يتساءل عن نفسه، وعن أصله و مصيره.
القدرة المعرفية هي الطاقة الذهنية التي نتفاعل بها مع العالم: نفكر، نحلل، نتذكر، ونبدع.
إنها الأداة التي صنعت الحضارات، وشكّلت اللغة، وأسّست للعلم والفن.
لكن هذه الأداة لا تعمل في الفراغ، بل في مجال خفي نسميه الوعي.
الوعي ليس مجرد تفكير، بل هو الإحساس بالوجود، الشعور بالزمن، والانتباه إلى الذات وهي تفكر .
فهل العقل يخلق الوعي؟ أم أن الوعي هو المسرح الذي يعمل فيه العقل؟
هنا ندخل أرض الفلسفة، حيث الجواب لا يُقاس بمعادلة، بل يُستنبط من التأمل العميق.
يمتاز الإنسان بقدرته الفريدة على أن يلاحظ نفسه ، حين يقول: “أنا أفكر”، اذن أنا موجود.
وهل هذه “الأنا” تموت بموت الجسد؟ أم تستمر في مجال آخر من الوجود لا تدركه الحواس؟
في تجارب الاقتراب من الموت، وصف كثيرون شعورًا بالخروج من الجسد، فهل هي هلوسات دماغ يحتضر؟ أم شواهد على أن الوعي لا ينطفئ بانطفاء القلب؟
العلم لم يحسم الجواب، لكن الأسئلة تتكاثر، والنفس طامحة للمعرفة.
هنا نصل الي الثلاثية المتكاملة وهي القدرة المعرفية التي هي طاقة العقل حين يسكن الجسد، و الوعي الذي هو المرآة التي نرى بها العالم ونرى بها أنفسنا وترتبط الأشياء ببعضها وتتواجد العلاقات وتتشابك، وما بعد الموت الذي هو الامتحان النهائي لهذه الذات؛ هل تموت معنا؟ أم تواصل رحلةً في أفق لا ندركه بعد؟
الحقيقة أن الـخاتمة مفتوحة، فقد نموت، لكن السؤال لا يموت.
وربما وُجدنا لا لنُجيب، بل لنتساءل.
ربما جوهر الإنسان لا يُقاس بما يعرف، بل بما لا يكفّ عن البحث عنه.
وإذا كان العقل أداة، والوعي هو الحقل والمجال ، فإن الموت هو السؤال المفتوح الذي يدعونا إلى إعادة تعريف معنى الحياة.
هل نحن شرارة من وعي كوني؟
هل نحن فكرة في عقل أوسع؟
أم لحظة خاطفة من الحضور، ثم نغيب؟
أسئلة لا تحتاج إلى يقين، بل إلى شجاعة التأمل وفضول البحث. .
وربما أن أمر ما قبل الحياة ثم الحياة ثم الموت و ما بعد الموت كله مُسَجّل في ( كتاب مرقوم ) بمعني أن كل ما في هذا الكون و نحن اقل من ذرة فيه إنما هو( سجل رقمي )(Digital record)
يحدث عليه متوالية مستمرة من التعديلات و الحذف و إلاضافة و التحرير و إعادة التحرير و يدخل عليه الكثير من التسامح و الغفران و العفو لاستعدال الموازين.