بين الحرية والنظام والإبداع
مفارقة التربية الحديثة
بقلم: د. حسام بدراوي
هل نربي أبناءنا علي التناقض دون أن ندرك؟ نطالبهم بالتفكير الحر،ثم نكافئ من يطيع بلا نقاش؟
يشغل فكري التناقضات التي بدون أن ندري نزرعها في وجدان أطفالنا في المنزل والمدرسة. نقول لهم ونعلمهم كيفية البحث عن البرهان في كل حقيقة تطرح امامهم ، وينتقلوا اليً حصة الدين ونعلمهم تصديق ما ليس له برهان ليكونوا مؤمنين. وعلينا الحذر وزيادة معارفهم بأنه لا يوجد تناقض بين العلم والإيمان حتى لا نقود عقولهم إلى اختيارات خاطئة. وأعتقد أن هناك توازناً مطلوباً، فلسنا بحاجة إلى استبدال العقل بالإيمان، ولا العكس.
فالعقل يسأل، ويشرح، والإيمان يُنير؛ العقل يقودنا إلى حدود العالم، والإيمان يعطينا أملًا فيما بعده.
نطلب من أولادنا طاعة الوالدين والمدرس والحاكم وفي نفس الوقت نريد لهم الحرية والقدرة على الاختلاف وعدم أخذ الطاعة كقيمة مطلقة، بل عليهم التفرقة بين طاعة القانون وحرية الاختيار. لا نريد لأطفالنا أن يكونوا عبيدًا بل أحرارًا في فكرهم وتصرفاتهم باحترام للأكبر سناً والأكثر خبرة. إن الطاعة فعل نفسي وقد يكون شكلًا من أشكال «التأثير الاجتماعي الذي يخضع فيه الشخص لتعليمات أو أوامر صريحة من شخصية ذات سلطة».
وتتميّز الطاعة بشكل عام عن الامتثال، وهو سلوك يتأثر بالأقران، وعن المطابقة، وهي سلوك يقصد به مطابقة سلوك الأغلبية. واعتمادًا على السياق، يمكن اعتبار الطاعة سلوكًا أخلاقيًا في إطار تنظيم الجيوش مثلا أو غير أخلاقي أو لا أخلاقي إذا ارتبط بسلطة إنسان على آخر لمجرد التحكم فيه أو الحصول على مميزات أكثر منه. الحضارة لا يصنعها إلا الأحرار، وإن الاستعباد المرتبط بالطاعة بكل صورة السياسية والاجتماعية مرفوض. علينا أن نعلم أولادنا أن الامتثال للقانون الذي يرتضيه المجتمع والذي يطبق على الجميع بلا انتقائية هو الذي يضبط قيمة الحرية والمساواة ولا يعتبر ذلك طاعة مرفوضة.
نفس الشيء الذي علينا أن نفكر فيه هو التناقض بين النظام والإبداع وهو موضوع مقالي الأساسي. فالنظام قد يكون أرضية للإبداع، لا نقيض له، في النظرة السطحية، يبدو أن النظام والانضباط يتعارضان مع الإبداع. لكن الواقع أكثر تعقيدًا.
الإبداع لا يولد من الفوضى. إنه يحتاج إلى بنية تحتية من الفهم والانضباط. الفنان لا يكسر قواعد الرسم إلا لأنه أتقنها. والعازف لا يؤلف لحنًا غير مألوف إلا لأنه فهم السلم الموسيقي وأبعاده. الطفل لا يستطيع أن “يخترع جديدًا” قبل أن يتعلم القديم، ومن هنا، يصبح النظام مرحلة ضرورية — لا بد من عبورها — قبل التمرّد الخلّاق.
إن نوع القواعد يحدد إمكانية تجاوزها، فليست كل القواعد متساوية. وهنا ينبغي أن يكون المربي ذكيًا في التفريق بين:
– قواعد أخلاقية ثابتة: كالصدق، الاحترام، التعاون… هذه تُرسّخ الضمير، ويجب أن تكون غير قابلة للكسر.
– قواعد إجرائية أو منهجية: كطريقة حل مسألة، أو قالب كتابة موضوع… هذه هي القواعد التي يجب تعليمها أولًا، ثم تشجيع الطفل على إعادة تشكيلها حين ينضج فكره.
في التعليم الحديث، نعلّم الطفل أولًا أن هناك طريقة معينة للكتابة أو الحساب، ثم نسأله: “هل يمكنك أن تقترح طريقة أخرى؟ هل ترى ما يمكن تحسينه؟”
إن الخوف من الخطأ… عدو الإبداع، في الأنظمة التربوية التقليدية، يُقابل الخطأ بالعقاب أو التوبيخ. لكن في مناخ الإبداع، الخطأ هو الخطوة الأولى نحو الاكتشاف، ولهذا يجب أن تُزرع في الطفل قناعة بأن “ارتكاب الخطأ جزء من التعلم لا علامة على الفشل”. المُعلم المُلهم هو من يُشجّع الطفل على المحاولة، حتى لو فشل، ويحتفل بجرأته على التفكير، لا فقط بدقة إجابته.
– النظام العاطفي والنفسي شرط للانطلاق، فالإبداع ليس فقط وظيفة عقلية، بل أيضًا حالة نفسية. الطفل القلق، الخائف، المراقَب دائمًا، لن يستطيع أن يُطلق خياله، أما الطفل الذي يشعر بالأمان والثقة، فيمتلك الشجاعة لطرح أفكار غريبة، والتجريب، والسؤال، وهنا يكون دور النظام الحقيقي: أن يوفّر بيئة من الأمان والاستقرار، لا بيئة من القمع والمراقبة.
– من المدرسة إلى الحياة: نموذج مزدوج:
علينا أن نبني نموذجًا تربويًا يُمكّن الطفل من التعايش مع:
– الالتزام بالقانون دون عبودية له
– احترام النظام دون التجمّد فيه
– اتّباع الخطوات دون حظر الابتكار
هذه التربية لا تُلقّن، بل تُمارس. في الصف، وفي البيت، وفي كل لحظة يتعلّم فيها الطفل أن السؤال مسموح، والاختلاف ليس خطأ، والاجتهاد الشخصي لا يقل قيمة عن النموذج المثالي.
نصيحة للمربين: كيف نوازن؟
– ابدأ بتعليم النظام جيدًا… ثم اسمح بتجاوزه بعقل.
– شجّع الطفل على أن يطرح “لماذا؟” دائمًا، حتى مع أبسط القواعد.
– قل له: “هذه طريقة صحيحة… لكن هناك طرق أخرى أيضًا.”
– اصنع من الفوضى فرصة للنقاش، لا للعقاب.
– قِس التقدم بالسؤال، لا فقط بالإجابة.
أمثلة واقعية من التعليم:
– أن نطلب من الطلاب أن يكتبوا قصة قصيرة باتباع قالب تقليدي، ثم نطلب منهم كتابة قصة ثانية بكسر هذا القالب — مثل البدء بالنهاية أو استخدام شخصية صامتة.
– في إحدى المدارس الحكومية، في المدارس التي أطوّرها من خلال منظمة تكاتف، أطلقت مُعلمة مبادرة اسمها “أخالف… لأفكر”، كانت تطلب من الطلبة أن يقترحوا طرقًا جديدة لحل مسائل بسيطة، حتى لو كانت مخالفة للكتاب، بشرط أن تكون منطقية.
– وفي البيت، حين يسأل طفل والدته: “لماذا نُرتب أسرّتنا كل صباح؟”، أجابته تكون: “لا مشكلة إن لم تفعل ذلك اليوم، لكن جرّب أن ترى كيف تشعر في غرفة مرتبة، ثم احكم بنفسك.”
هذه اللحظات الصغيرة هي ما تبني وعيًا مرنًا يوازن بين النظام والحرية.
إن التمرّد الناضج… هو غاية التربية. الطفل الذي يحترم النظام لأنه فهمه، ثم يبتكر طريقته لأنه أُعطي مساحة، هو الطفل الذي سيقود المستقبل، لا يتبعه.
إلا أنه كثيرًا ما يُساء فهم الحرية، فتُتصوّر على أنها انطلاق مطلق من كل قيد، وتمرد على كل نظام، وتحلل من كل التزام. ولكن، هل الحرية الحقيقية كذلك؟ أم أن ما نراه أحيانًا من خرقٍ للقواعد، وتمردٍ على القيم، ليس إلا فوضى متستّرة بثوب الحرية؟
الحرية التي لا تُقيَّد بالمسؤولية تتحوّل إلى فوضى، والحرية التي لا يضبطها ضمير أو قانون، تُنتج فوضى تُهدد الجميع. إن الإنسان لا يكون حرًا حين يفعل ما يشاء، بل حين يعي عواقب أفعاله، ويتحمل نتائج قراراته، ويختار سلوكه بوعي أخلاقي.
الفوضى ليست مرادفًا للحرية، بل نقيضها في الجوهر. ففي الفوضى، يُضيع القوي الضعيف، ويختلط الحق بالباطل، وتنعدم القدرة على التمييز بين الفعل النبيل والسلوك العبثي. أما في ظل الحرية الحقيقية، فإن الانضباط الذاتي، واحترام الآخر، والسعي للخير العام، تصبح شروطًا أساسية.
الالتزام لا يناقض الحرية، بل يحميها من الانزلاق إلى العبث. تمامًا كما يحتاج الفن إلى إطار، والموسيقى إلى إيقاع، تحتاج الحرية إلى حدود يرسمها العقل والضمير والقانون. فحين نؤمن أن الحرية لا تعني الفوضى، نبدأ ببناء مجتمعات عاقلة، قوية، تُعلي من قيمة الإنسان، وتمنح كل فرد حقه دون أن يتجاوز على حقوق الآخرين.
نحن لا نربي عبيدًا للأنظمة… بل نُخرج من أطفالنا مَن يستطيعون أن يعيدوا تشكيل العالم، بأخلاقية، وحرية، وخيال.