الإثنين , 29 أبريل 2024
الرئيسية / د. حسام بدراوي في عام 2024 / أضواء على علم الميمات بقلم سامح عسكر

أضواء على علم الميمات بقلم سامح عسكر

أضواء على علم الميمات
بقلم سامح عسكر في 30/3/2024‏
منذ أيام أهداني الأستاذ والصديق العزيز “حسام بدراوي‎” ‎كتابه الماتع والجديد ذا الفكرة غير المسبوقة في الفكر ‏العربي، بعنوان، “أنا والميمات‎”‎، ويتلخص هذا الكتاب في استطلاع واستقراء الحالة الثقافية في الفكر العربي ‏والإسلامي، بالاعتماد على أحدث العلوم النظرية في ذلك؛ وهو علم “الميمات‎” ‎أو ‏Memetics، ويعني دراسة ‏التطور الثقافي بناء على المعرفة بالميمات التي تشكل وحدة جزئية للفكر والسلوك، مثلما تشكل المعلومات ‏الوراثية وحدة جزئية للجينات.‏
ساق دكتور بدراوي كتابه في إطار علمي تجريبي أدبي مختلط؛ فهو سيرة ذاتية مفصلة بعض الشيء، تحكي ‏تجاربه الواقعية في رصد واستقراء الحالة الفكرية والسياسية والدينية التي كانت عليها مصر في العقود الأخيرة، ‏ومن تلك الزاوية يمكن الاسترشاد بالكتاب كقصة حياة مفكر ذكي ونابه يستخلص عصارة المجتمع لاستنتاج ‏طبيعته وأسلوب حياته، والأهم هو المؤثرات الفكرية التي سارعت بانتقاله للتشدد الديني بهذه السرعة الملفتة؛ ‏حيث إنه وبالنظر إلى واقع مصر قبل 50 عامًا مثلاً سنرى طبيعة مختلفة وميولاً واهتمامات مختلفة عن التي ‏عليها الشعب الآن.‏
الفكرة التي ظهر عليها هذا العلم الجديد أنه مثلما يمكننا دراسة التطور البيولوجي الدارويني بدراسة علوم ‏الأحياء والجينات الوراثية، كذلك يمكننا دراسة تطور الفكر بدراسة الميمات، وهي مجموعة أفكار وسلوكيات ‏وقناعات قد يراها الإنسان صغيرة وهامشية، لكنها تشكل جزءً كبيرًا وهامًا في الثقافة وتطورها؛ فالميم هنا لا ‏يعني بالضرورة أنه سلوك أو فكرة واقعية أو إيجابية، ولكنها قد تكون تعبيرًا عن خيالات وقناعات وهمية سلبية، ‏لها ارتباط وثيق برغبات السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية في النفوذ والسيطرة، ومن تلك الجزئية كتب ‏الدكتور بدراوي كتابه لاستقراء أزمة من أزمات الفكر العربي والإسلامي من منظور علمي مختلف.‏
الميم هي معلومة أو تركيبة معرفية قابلة للتكاثر عبر عقول المُعيلين من بني البشر، وتؤثر على سلوكهم بحيث ‏تجعلهم يساعدون الميم على الانتشار
يُعلق دكتور مراد وهبة في تقديمه للكتاب بقوله: “إن الميم مُشابه للحمض النووي؛ فكما أن هذا الحمض يحمل ‏معلومات وراثية، كذلك الميم من حيث هو فكرة يحمل معلومة تتحول مع التطور إلى معرفة‎”‎‏. ويعلق دكتور أحمد ‏عكاشة في تقديمه للكتاب بقوله: “إن مفهوم الميم الثقافي هو نتاج مفاهيم جديدة على غرار المفاهيم البيولوجية، ‏وأن العلوم الاجتماعية من خلال هذه النماذج هي فهم حركة انتقال ودوران وتغير بعض الأفكار والثقافات، ‏بالضبط كما يفهم الطبيعيون حركة الجينات؛ فمثلما توفر لنا الجينات القدرة على نقل الخصائص بيولوجيا عبر ‏التكاثر؛ فالثقافة توفر نقل أنماط السلوك اجتماعيًا عبر التعليم أو التقليد، وكما تتضمن الجينات معلومات ذات دور ‏تقريري في بناء الكائن وتكاثره، كذلك تحتوي الميمات – أو أنماط السلوك الثقافي – على معلومات ذات دور ‏مهم في بناء المجتمعات البشرية‎”‎‏.‏
يضيف دكتور عكاشة: “إن الميم هي معلومة أو تركيبة معرفية قابلة للتكاثر عبر عقول المُعيلين من بني البشر، ‏وتؤثر على سلوكهم بحيث تجعلهم يساعدون الميم على الانتشار، والميمة بالعموم هي أصغر وأبسط وحدة فكرية ‏أو ثقافية تنتقل أو تتناسخ من عقل لآخر‎”‎‏.‏
ولكي ينتشر الميم وفقًا للدكتور بدراوي وضع عدة شروط يجب توافرها، هي بالأصل خصائص وشروط للأديان ‏والأساطير الشعبية والتاريخية؛ فمن ضمن هذه الشروط:‏
▪‏ أولا: قابلية هذا الميم للتصديق.‏
▪‏ ثانيا: أن تخص عددا كبيرا في المجتمع.‏
▪‏ ثالثا: أن تكون مخيفة ومفزعة في جزء منها؛ فجميعنا نحب إفزاع بعض.‏
▪‏ رابعا: أن تكون سهلة الانتشار والانتقال.‏
▪‏ خامسا: أن يكون المناخ مستعدًا لها أو مضادًا؛ ففي الحالتين يكون الانتشار ممكنًا.‏
ولشرح ما يقوله هؤلاء من تعريف لعلم الميمات، يمكن ضرب بعض الأمثلة لتقريب المسألة، وأبدأ بما طرحه ‏دكتور بدراوي في طرح نموذج للميم الثقافي المعرفي بالصفحة 75، وهي المعتقدات الدينية التي يعرفها الطفل؛ ‏فهو لم يولَد بها لكن تعلمها من مجتمعه ‏‎/ ‎أسرته؛ فمصادر المعرفة الأساسية لدى الإنسان ثلاثة؛ هي ‏‎(‎الغريزة ‏والثقافة والتجربة‎)‎، هنا الطفل ينشأ على وحدة معرفية صغيرة ‏‎(‎الميم‎) ‎لا علاقة لها بالثلاثة، ولكنه اكتسب هذه ‏الميمة من الأسرة، وهي ميمة ثقافية متطورة عن الأجداد تم تلقينها للطفل دون سابق معرفة أو إنذار، أو حتى ‏استعداد وإدراك لمعانيها، ولأن الطفل لا يفهمها فهي لا تنتقل من خلاله، ولكنها تكبر وتتطور في داخله بمؤثرات ‏وظروف قد تكون مختلفة عن التي تعرض لها أجداده.‏
ومن هنا يكتسب الميم الجديد أبعادًا وصفات أخرى عن القديمة الموروثة، وهذا الذي يؤدي لتطور الأفكار ‏والأديان، إن الذي يؤثر في تغيير هذه الأشياء وتطورها في التاريخ هي مؤثرات اجتماعية ومادية على تلك ‏الميمة الموروثة – غير المُدرَكة – بالأساس، بالضبط مثلما يتطور الكائن الحي في الطبيعة؛ حيث يتغير شكله ‏وطباعه وسلوكه بناء على تحديات ومؤثرات اجتماعية ومادية للأجداد، مثلما حدث للحيتان مثلاً في سلسلة ‏تطورها من حيوان بري يمشي على أربع، إلى حيوان بحري يسبح بيدين صغيرتين في الأمام، وأرجل مطموسة ‏تحت اللحم في الخلف.‏
ونموذج آخر حكاه دكتور بدراوي في الصفحة 46 وإن لم يسمها ‏‎(‎ميم‎) ‎ثقافي، لكن بالإشارة لوعيه بالميمات ‏قرأت هذه الإشارة بين ثنايا السطور، وهو نموذج يحكي فيها محاولات جماعة الإخوان المسلمين عن طريق د. ‏محمد مرسي وآخرين التقرب منه عندما كان رئيسًا للجنة التعليم في البرلمان المصري عام ‏‎2003‎؛ حيث طلبوا ‏من الدكتور أن يتوسط عند جمال مبارك وإبلاغه بدعم الإخوان له كرئيس للجمهورية، هنا يتذكر تحذير اللواء ‏‏“حسن أبو باشا‎”‎، والذي هو ‏‎(‎حمو الدكتور بدراوي‎) ‎من خطورة الإخوان إذا وصلوا إلى السلطة، وأن ما يريدون ‏فعله مع جمال مبارك شبيه بما فعله الوهابيون والسلفيون مع العائلة المالكة في السعودية.‏
الميم الثقافي هنا هو “الانتهازية السياسية‎”‎، وقبول التحالف مع الأقوياء وطاعتهم لحين التملك والوصول لمرحلة ‏التمكين، إن هذ الميم أهم ما يتصف به العنصر الإخواني والمنتمي للجماعات الإسلامية بالمطلق؛ حيث لا ‏يترددون في قبول الدعم أو طلبه والإلحاح عليه من الأقوياء وذوي النفوذ، إذا ما ارتأوا في ذلك مصلحة آنية لهم ‏تساعدهم على الحكم، أو الوصول بالحد الأدنى لدرجة من القوة اللازمة تمنع الحاكم من البطش بهم والتفكير ‏مرات في الاعتماد عليهم، والتردد بكل الأحوال في تناولهم كجماعة لها نقاط ضعف وقوة تصبح مرغمًا لذوي ‏النفوذ إذا فطنوا لتلك القوى واتخذوا قرارًا بالحوار معها.‏
ويمكن استقراء فكرة ‏‎”‎الإسلام هو الحل‎” ‎كأشهر ميم ثقافي اعتمدت عليه الجماعات لتأصيل وتشريع الحكم ‏الديني؛ فقد حصل على الشروط الخمسة لشهرة الميم؛ فضلاً عن فعاليته واعتماده على مجموعات كبيرة من ‏الخلط والجهل والأمية بالمصطلحات والمفاهيم، نتيجة لتردي التعليم بالعقود الأخيرة.‏
وهو نفس الميم الذي أنتج ما يسمى “طاعة الحاكم‎” ‎في الفكر الإسلامي؛ حيث يعلو طموح الفقهاء ورجال الدين ‏في السيطرة والانفراد بالحكم، ولأنهم ليسوا من حملة السلاح، وبالغالب ليسوا من الأعيان؛ فهم بحاجة للتحالف ‏أو التعاون مع هاتين الفئتين لضمان القوة اللازمة للبقاء من جانب، أو لضمان الحكم من جانب آخر؛ فالبشر لم ‏يعرفوا قوة نفوذ وإخضاع وسيطرة أكثر من قوتي “المال والسلاح‎”‎، بمعنى أن الناس لا تحكمها سوى هذه القوى؛ ‏فأي مجتمع تخضعه هذه القوى التي صنعت فكرة البوليس الأولى في التاريخ للسيطرة، أما قوة المال فلها مفعول ‏السحر، وهي من النوع الناعم الذي يخاطب المصالح والضمير والأخلاق.‏
قوة البوليس والمال امتدادهم راسخ جدا في النفس البشرية ؛ فلا حاكم يحكم ويستقر إلا باقتصاد قوي وبوليس ‏قوي، ولا جلسة عرفية تنجح في حل المشاكل القبلية إلا بوسطاء يجمعون بين الحُسنيين أو أحدهما، أما قوة العقل ‏فهي تخاطب فئة محدودة من البشر، لكنها تصلح كجانب مكمل للقوى الأخرى، بمعنى أن الشرط الأساسي في ‏الحاكم أو العمدة هو شيخ القرية أن يكون غنيًا مقتدرًا ولديه ما يعطيه؛ فلو كان فقيرًا أو صعلوكًا أو كادحًا لصار ‏مكسورًا ولم يجرؤ على رفع عينه لحكم الناس وإقناعهم بنفسه، كذلك لابد لهؤلاء من شرطة تمكنهم من تخويف ‏وإرهاب المنحرفين والمخالفين، وتساعدهم في بسط السيطرة وضمان استقرار حكمهم.‏
هنا تكون الانتهازية السياسية عند الجماعات ورجال الدين، تتفق مع الشروط الواجب توفرها في الميم لينتشر، ‏واختصار هذه الشروط التي وضعها دكتور بدراوي، هو إيمان مجموعة كبيرة من الناس بها، والظرف الملائم ‏لحضورها؛ فضلاً عن قابليتها للتصديق، ولا شك أن الخضوع للأقوياء مبرر منطقيًا وبدهيًا بدعوى البقاء.‏
ويمكن استقراء فكرة “الإسلام هو الحل‎” ‎كأشهر ميم ثقافي اعتمدت عليه الجماعات لتأصيل وتشريع الحكم ‏الديني؛ فقد حصل على الشروط الخمسة لشهرة الميم مثلما طرح ذلك دكتور بدراوي من جانب؛ فضلاً عن ‏فعاليته واعتماده على مجموعات كبيرة من الخلط والجهل والأمية بالمصطلحات والمفاهيم، نتيجة لتردي التعليم ‏بالعقود الأخيرة من جانب آخر؛ فقد انتقل هذا الميم كالعدوى وصار شعارًا مرفوعًا في المظاهرات والانتخابات ‏دون إدراك لمعناه الخطير والاحتكاري الذي ينشر التكفير في المجتمع باستنساخ فاحش لتجربة الخوارج في ‏صدر التاريخ الإسلامي.‏
إن دراسة التطور الثقافي في العقود الأخيرة تمكننا من فهم ماهية هذا الميم وكيفية انتشاره، وما تكوينه ‏وعناصره؛ فقد اعتمد في تطوره على حب الناس للدين والعبادات وتعلقهم بشخصيات الرسول والصحابة وآل ‏البيت؛ فاعتمد مروجو هذا الميم وناقلوه على هذا الحب بترديد أقوال وتفاسير هؤلاء الرموز والإكثار منها، لحد ‏الإشباع والسيطرة، مقابل ترويج الميم بكراهية وازدراء غير المسلمين، أو الذين يُشَكُ في إسلامهم، ذلك لأن ‏الميم في جوهره إما يثير شعورًا قويًا بالبهجة والسعادة مثل شعار الإسلام هو الحل، أو يثير شعورًا بالكراهية ‏والاحتقار مثل تكفير غير المسلمين والمختلفين بالرأي في العموم.‏
‎ ‎فالميم ليس مجرد شعار؛ بل هو تطبيق عملي لإشارات وأحاديث ونظريات ، ومن خلال دراسة الميم يجري فهم ‏تطور الإنسان والمجتمع من خلال تجاربه وخبراته؛ فكلما كانت تجاربه أكثر نضجًا كلما كانت ميماته أكثر نضجًا ‏ودقة، والعكس صحيح، ولا شك أن الانتقادات التي وجهت للدولة الدينية في الغرب منعت احتكار المسيحية هناك ‏بشكل كبير، وانخفض التكفير الضمني والمباشر، أو الادعاء بعدم خلاص وهرطقة وتجديف المختلفين بالرأي، ‏بينما تجارب المسلمين تقول إنهم لم يتطوروا فكريًا بعد؛ حيث ومن خلال تجاربهم نرى أن ميامتهم ذات صفة ‏احتكارية في الدين والسياسة والفكر.‏
هدف الدكتور بدراوي من كتابه أن دراسة الميم يمكننا من فهم طبيعة المجتمع والتنبؤ بمستقبله إلى حد كبير؛ ‏فمثلما يتوقع علماء البيولوجي والتطور مستقبل الأنواع من خلال المعلومات الوراثية والسلوك، يتوقع المفكرون ‏مستقبل الإنسان من خلال ميماته وسلوكه، وكأن هناك جدولاً للرياضيات وقيم إحصائية تشير إلى وجود بيانات ‏لهذه الميمات، يمكن من خلالها البحث أو وضع خوارزميات معينة وشفرات تمكن الباحثين من التنبؤ بطبيعة ‏ومستقبل هذا الكائن.‏
إن تديين العمل هو ميم ثقافي مشهور اعتمد على ميم آخر في سلسلة تطوره البنائي، وهو ‏‎”‎الاعتقاد بنهاية العالم‎”‎
ومن خلال قراءتي لكتاب دكتور بدراوي قفز إلى ذهني أحد هذه الميمات التي لم يتطرق إليها الدكتور، لكنها ‏قريبة من المعنى الذي يشير إليه؛ فالجماعات الإسلامية عندما شرعت في الظهور السياسي والحضور ‏الاجتماعي قبل خمسة عقود، كان ولابد أن يحدث هذا الظهور السياسي عقب تديين المجتمع شكليًا؛ حيث إن ‏التدين الشكلي والطقسي سوف يكون حصان طروادة، أو هو السفينة التي من خلالها تعبر الجماعات لشاطئ ‏الحُكم الديني.‏
فكان أحد أهم السلوكيات التي فعلتها الجماعات وأشارت إليها في الكتب الدراسية الداخلية، وهو ‏‎(‎تديين العمل‎)‎، ‏وقد اعتمدوا في ذلك على إقامة الصلوات الخمس جماعة في محل العمل؛ فلو لم يوجَد مكان لذلك يجري توفيره، ‏بعدما كانت الصلاة في العمل فردية وتحدث بنظام المناوبات والاختيار الحر، لكن الطقس الذي تم ترسيخه منذ ‏السبعينات أدى لبناء المساجد والزوايا في محل العمل، ثم ترك العمال ماكيناتهم وآلات الإنتاج للصلاة، وبنظام ‏قهر الأغلبية من لم يكن يُصلي سيُصلّي رغمًا عنه منعًا للاتهام أو جلب الضرر لسمعته وكرامته على المستوى ‏الاجتماعي، وقد رافق هذا الطقس سلوكيات أخرى تفرعت عنه، مثل تشغيل القرآن بأصوات عالية واستنكار ‏سماع الأغاني.‏
وقد أدى هذا السلوك لتعزيز سلطة الجماعات أكثر، وانتقال المعيار الذي من خلاله يجري الحكم على الناس من ‏الجوهر إلى الشكل، وانخفضت أهمية المعاملات والأخلاقيات لتصبح صلاة الفرد وقراءته وسماعه للقرآن هو ‏المعيار الأوحد على صلاحه وتدينه وقربه من الله.‏
إن تديين العمل هو ميم ثقافي مشهور اعتمد على ميم آخر في سلسلة تطوره البنائي، وهو “الاعتقاد بنهاية ‏العالم‎”‎؛ فكانت دعوى الجماعات تتلخص في أننا في نهاية الزمان، وعليكم بالتوبة قبل فوات الأوان؛ فأكثروا من ‏إلقاء وسماع أحاديث النهاية وملاحم آخر الزمان التي احتلت جزءً كبيرًا من خطابهم الديني، حتى شعر الناس ‏بالنهاية الحتمية، وساد شعور اللامبالاة ناحية الواقع الذي انحط أكثر وتخلف نتيجة لهذه العُزلة الشعورية؛ فاعتقاد ‏الناس بالنهاية وقضاء الأجل المحتوم جعلهم يعيشون دون رغبة وطموح، وقتل في نفوسهم حب البقاء والإبداع ‏بالتوازي مع إحياء ثقافة الموت والقبور؛ مما سهّل لدعاة الموت والدمار اختراقهم وجدانيًا؛ فانتشرت جماعات ‏العنف والانتحار باسم الله دون رقيب وحسيب.‏
ومن أمثلة الميمات أيضًا ما يسمى “جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‎”‎؛ فالطابع الأساسي لها الجمع بين ‏الفكرة والسلوك، أو بين النظرية والتطبيق، وهي تتسم بالاستدلال العقائدي والفقهي عند الجماعات، بغض النظر ‏إن كان هذا الدليل صحيحًا وصادقًا في ذاته أم وهميًا، لكن هذا الميم يعد أحد أهم التطورات الفكرية التي اتسم بها ‏الفكر الإسلامي في القرن العشرين؛ حيث لا تجد مثل هذا الميم حاضرًا في فكر الأولين كشرط أساسي لدولة ‏الشريعة، لأن إحصاءه كشرط يعني فقدان تطبيقه على أرض الواقع، وهو ما لم يحدث.‏
حيث تميزت المجتمعات القديمة بالحصار والمراقبة الاجتماعية على سلوكيات الأفراد قبل أن تتطور ثقافة ‏الإنسان بالحرية الليبرالية منذ القرن 19م، لكنه ومن فقدان هذا الحصار وتلك المراقبة بالحريات ظهر هذا الميم ‏كحاجة نفسية ومادية لضبط سلوكيات الأفراد ومنع الانحرافات الخلقية، وما يتعلق بذلك من ميول قهرية ‏واستبدادية ضد الرأي الآخر بالعموم؛ فهو ميم هام جدًا يعطي ليس فقط معنى واحدًا، ولكن عدة معان مجتمعة ‏تحقق مصلحة الناس وفقًا لرأيهم، إضافة لتطبيق صحيح الدين وما يتبعه من فرص النجاة في الدنيا والآخرة.‏
إن الفكرة الأساسية وراء طرح علم الميمات والقول به هو تبسيط العلوم المعقدة؛ فالتطور البيولوجي والحضاري ‏للكائنات هو حالة عامة طالت كل شيء حتى الأفكار، ومثلما هناك عناصر مادية تحكم هذا التطور في الداروينية ‏وفقًا لدوكينز، هناك عناصر معنوية تحكم تطور فكر الإنسان في التاريخ، ومن خلال هذا التطور تنشأ ‏الحضارات؛ فيكون رصد هذه الميمات وتصورها بهذه الطريقة مقاربة بالمعلومات الوراثية في الجينوم، هو رغبة ‏في اختزال هذا التعقيد العلمي في إجراء عمليات بسيطة يفهمها الشخص العادي.‏
لا توجد معايير متفق عليها تحكم عمل هذه الميمات وانتقالها؛ فالمعايير مختلفة باختلاف البشر، وقبول الناس ‏لميماتهم الثقافية يظل أسيرًا للميول المسبقة والمصالح الشخصية
وهي طريقة عملية لكشف المشكلات وحلولها عن طريق أدوات للمقارنة؛ فمشكلة مثلاً داخل علوم الأحياء يمكن ‏فهمها لو طرحت في سياق مختلف وليكن في علم الأفكار، حينها يمكن تصور هذه المشكلة المادية بشكل صحيح ‏بتقريبها للذهن على شكل نظريات وبراهين عقلية ومشاريع فكرية، وليس أدل على ذلك من فكرة الاستنساخ ‏الوراثي؛ حيث تحمل بصمات الجينوم معلومات وراثية موروثة من الآباء والأجداد، بالضبط مثلما تحمل الأفكار ‏معلومات ورثها البشر من الآباء والأجداد عبر ما نعرفه بمركزية الأسرة في البناء الفكري والتعليمي للفرد، ‏ومسؤوليتها في صناعة دين الأفراد وعقائدهم وأيديولوجياتهم المختلفة؛ فالنسخ الوراثي هنا ينطبق بشكل مذهل ‏على النسخ المعلوماتي، وهي الفكرة التي يبدو أنها حفزت دوكينز على القول بالميمات.‏
ومع ذلك فالنظرية أو علم الميمات لا زال في بداياته، ويبدو أنه يعاني من بعض المشكلات ولم يُجب على بعض ‏الأسئلة منها مثلا:‏
▪‏ أولاً: ما دقة المعلومات الموروثة والمنسوخة من الأفراد لبعضهم، وهل يمكن القول بأن ثمة زيفًا ‏وأوهامًا كبيرة حصلت؟ هل توجد ضمانة بانتقال هذه المعلومات كما هي أم تعرضت للتشويه ‏والتحريف؟
▪‏ ثانيًا: إدراكات وقدرات الناس مختلفة ومتباينة للغاية؛ فمنهم من يملك مخيلة واسعة، ومنهم من توجد لديه ‏تلك المخيلة بشكل أضيق، ومنهم من لا يملك أي مخيلة تمكنه من التصور والتجريد، ووحدة ‏قياس ذلك على المشاع هي اختبارات الذكاء والرسم والتعبير وغيرها؛ فهل يمكن القول بأن تلك ‏القدرات المختلفة لها دور سلبي وإيجابي في نقل ونسخ تلك المعلومات؟
▪‏ ثالثًا: الناس أيضًا مختلفون نفسيًا، منهم من يواجه الصدمات بقوة وثبات انفعالي، ومنهم لا يملك هذه القوة ‏والثبات، ومنهم من يملك منهما الشيء الضئيل؛ فانتقال ونسخ المعلومات ضمن حدود الميم ‏الثقافي عرضة أيضًا للتشويه، وقد رأينا ذلك في مشكلة بناء المتطرفين فكريًا؛ حيث وبتعميم ‏الخطباء وعدم شرحهم وتحريمهم للأسئلة أو امتناعهم عن إجابات بعض الأسئلة، تنشأ فراغات ‏هائلة في عقل المتطرف يجيب عنها بنفسه وفقًا لتصوره لشخصية وميول شيخه في ذهنه، وليس ‏الواقع الحقيقي لتلك الشخصية والميول.‏
ونرى هذه المشكلة بوضوح من واقع الحياة؛ حيث يدعي البعض أن تلاميذه وقراءه فهموه بشكل خطأ، وكثير من ‏الخطباء والزعماء يتبرؤون من فكر وأفعال تلاميذهم إذا خالفت معقولاً أو معروفًا أو أي أخلاقيات وأديان ‏وشرائع عرفها الناس؛ فالمشكلة أساسها من الخطيب والزعيم نفسه الذي حصر جهوده في حشد الجماهير لرأي ‏واحد وامتناعه عن مناقشة وقبول الرأي الآخر؛ فتنشأ صورة عن ذلك الزعيم لدى التلاميذ أقرب للسلطة القهرية ‏تكون مشغولة بشيء واحد فقط؛ هو تطبيق أفكارها بالقوة.‏
▪‏ رابعًا: لا توجد معايير متفق عليها تحكم عمل هذه الميمات وانتقالها؛ فالمعايير مختلفة باختلاف البشر، ‏وقبول الناس لميماتهم الثقافية يظل أسيرًا للميول المسبقة والمصالح الشخصية، ويلجأ الناس في ‏العادة إلى تصديق من يحبونه ولو كان كاذبًا، وإلى تكذيب من يكرهونه ولو كان صادقًا، لذا ‏فتطور الميمات يظل عملاً معقدًا بحاجة لرصد نفسي وفكري مزدوج.‏
▪‏ خامسًا: لم يتم تجريب الميمات الثقافية بشكل عملي، لذا فهي تظل أسيرة النظريات والفلسفة لتصبح قريبة ‏للإبستمولوجي من العلم الطبيعي، والذي صنع هذه المشكلة أنه لم توضع بعد آليات متفق عليها ‏لانتقال الميم من شخص لآخر، ولا زالت هذه الآليات محل دراسة واختلاف خاضعة للأحكام ‏المسبقة في الغالب، لما تتضمنه النظرية‎/ ‎العلم من فراغات ومساحات جدلية تطرح أسئلة أكثر ‏مما تلقى من الإجابات.‏
ومع ذلك فهذه المشكلات أو الألغاز التي تعترض علم الميمات لا تقول بنقضها أو نسفها أو اعتبارها وهمًا، ‏ولكنها جزئيات ومجال تفسيرها بحاجة لجهد علمي لتنشيطها؛ فالداروينية منذ ظهورها منتصف القرن 19 ظلت ‏أكثر من 100 عام تبحث عن كيفية انتقال الصفات الوراثية من كائن لآخر، إلى أن توصل الإنسان لعلوم الجينات ‏الوراثية التي شرحت هذه الآلية التطورية بوضوح؛ فكان ظهور علم الجينوم مكملاً وخادمًا للداروينية بالأساس؛ ‏فضلاً عن فراغات مست نظرية داروين تكلم عنها بنفسه في أصل الأنواع لا يتسع المقام لذكرها، ولكن الإشارة ‏إليها واجبة للفت الأنظار إلى أهمية الاعتماد على الميمات لشرح وفهم التطور الثقافي.‏
أختم بأن الدكتور حسام بدراوي عندما تعرض لميمات القيم الإنسانية فقد اجتهد في تفكيكها وتجزئتها بالأسلوب ‏التحليلي؛ فعندما يتعرض لقيم التضحية والطاعة مثلاً يجردها من معناها الشائع إلى تفصيلات أكثر دقة وواقعية، ‏وهنا توجد ثمة حلول لبعض المشكلات الخمسة أعلاه، وأن الحل ينبع من تفكيك وتجزئة هذه الكُليات التي نصفها ‏بالميم الثقافي؛ فالطاعة ليست واحدة؛ بل منها طاعة سلبية وأخرى إيجابية، والتضحية كذلك ليست مُعرفة بشكل ‏واضح، والكبرياء كذلك، والذي يوجد منه تصور شعبي يعني الغطرسة وتصور أدبي يعني الاعتزاز بالنفس.‏
مما يطرح السؤال هو دقة هذه المعلومات المنسوخة في ذاتها تبعًا لتصور الناس للقيمة أو الميم الثقافي؛ فاختلاف ‏الإنسان في تصور المعلومة قبل النسخ يعني أن الخطأ مؤكد في تصور تلك المعلومة بعد النسخ، وقد تتراكم ‏المشكلة عملاً بقاعدة فساد الجذور وشدة فساد الفروع؛ فكلما فسد الجذر فسدت الفروع القريبة منه، واشتد هذا ‏الفساد بالفروع الأبعد، أو العكس صحيح؛ فالجذر قد يكون طبيعيًا ولكن ثمة خطأ بسيطًا أو فوضى بسيطة لا تؤثر ‏على عمل ونسيج الشجرة بالكامل؛ فتنمو بشكل طبيعي رغم أنها تعاني من مشكلات.‏

التعليقات

التعليقات