الخميس , 9 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / د.حسام بدراوي يكتب “الكتير…نقصان”

د.حسام بدراوي يكتب “الكتير…نقصان”

الكتير…نقصان
حسام بدراوي
“الكتير قوي يابني نقصان” حكمة قالتها لي جدتي منذ زمن بعيد…لم أدركها إلا بعد سنين، فالتهويل في وصف الحدث يُنقص قيمته ، والزيادة في الإجراءات تُعَقدها، والإطالة في الشرح، لا يعني المعرفة الكاملة ، وزيادة عدد موظفي الدولة المخصصين لخدمة المواطنين، يتدني بكفاءة الأداء .
كلما قَلّت كلماتك زادت قيمتها، و كلما زاد علمك تستطيع أن تُلخصه في سطورٍ قليلة.
فكرت في أن ما يَصنع نسيج اليوم هو مجموع ما نفعل في الثواني والدقائق والساعات، وأن ما يَصنع التاريخ هو ما ننجز في مجموعة من السنين حدثت فيها أموراً متتالية من صغائر الأفعال ، والقرارات ، تَصنع واقع وترسم لوحة..
تعالوا آخذكم في رحلة الي مصر بعين المواطن والزائر،والمستثمر والمسافر ، يحدث فيها أمور صغيرة متتالية ، تعطي العالم إنطباعاً ، وترسم وجداناً ، و بتتاليها ترسم لوحة ، و فقط ، عندما نراها نستطيع تعديلها أو تغييرها إذا توفَرت الكفاءة و النّية والشجاعة….
ولنبدأ بالسياحة التي نعترف كلنا بأهمية تشجيعها لزيادة ثروة البلاد كواحدة من روافد الاقتصاد الهامة..
فقط في مصر ، تتم إجراءات تفتيش المسافر وحقائبه عدة مرات أكثر من أي مطار في العالم لنعلن أننا حريصين علي الأمن ، ومعيار الكفاءة عددي وليس نوعي. في أغلب مطارات العالم فإن إجراءات الcheck in لشركة الطيران تتم أولاً قبل إجراءآت الأمن والتفتيش ، ولكن في مصر فقط يوجد رجال أمن علي باب المطار الخارجي وتفتيش لحقائب السفر قبل مكاتب شركات الطيران.
بعد إجراءات تسجيل السفر والحصول علي بطاقة السماح بالسفر من مكتب شركة الطيران ، يتجه المسافر الي المنطقة الحرة ويمر خلال باب الجوازات الذي ينظر فيه الضابط المختص الي جواز السفر للتأكد من صلاحيته والتأكد من شخصية المسافر، وهو الأمر الطبيعي، ولكن الزيادة عندنا هي رجل الأمن الآخر علي بعد خطوات من الضابط الأول ، الذي بمجرد ختم الجواز للخروج من البلاد و التوجة نحو المنطقة الحرة ، يفحص جواز السفر مرة أخري ليتأكد من أن الجواز يخص المسافر ويعيد التأكيد من حصوله علي ختم المغادرة الذي تم علي يد الضابط الذي قبله الذي يبدو أنه أعلي رتبة منه ،وهو يقف علي بعد خطوات ولم تمر سوي ثواني علي ختم الجواز .
وعند يتوجه المسافر الي بوابة المغادرة الي الطائرة تبدأ مرة أخري إجراءات تفتيش المسافرين وحقائبهم اليدوية في إجراء أمني زائد يتم فقط في مصر
داخل هذا الإجراء الأخير ، فمهما كانت نتيجة المرور في البوابة الإلكترونية ، حمراء أو خضراء ، فإنه يتم التفتيش الذاتي للجميع ..
إجراءات أمنية متكررة لا تدل سوي علي عدم ثقة الجميع في بعضهم البعض ، وعدم الثقة في الأجهزة الإلكترونية التي كلفت الدولة آلاف الدولارات ..وتعطي انطباعاً بالبذخ في الإنفاق علي المعدات التي تتواجد علي كل باب سفر كل شركة طيران وكان يمكن اختصارها بإجراء واحد عند باب الدخول الي المنطقة الحرة……!
تذكرت حكمة جدتي “الكتير يابني نقصان…”
لو كنت مواطناً داخلاً الي البلاد ، في عصر الرقمية ، والتعريف بصورة الوجه ، و بالبصمة ، وهو الأدق والأصلح ، نجد من يمر عليك في الطائرة ويسلمك بطاقة ورقية لتكتب عليها ما هو مكتوب في جواز سفرك ، وهو الإجراء الذي توقف عند دخول كل بلاد العالم المتحضر ، ناهيك لو كنت مواطن داخلاً الي بلدك .
لو كنت سائحاً وتود الحصول علي فيزا دخول فعليك الخوض في معاناة الزحام غير المنظم وأحيانا الاحتياج الي الكاش في عالم يستخدم بطاقات الائتمان..
عند التوجه لختم جواز سفرك للدخول الي مصر ، تجد عدداً قليلاًمن مكاتب ختم الجوازات ويقف أمامها القادمين صفوفاً بشكل عمودي ، فإذا تأخر راكب أمام ضابط الجوازات يتأخر ورائه صفاً طويلاً من الركاب.. في كل مطارات العالم صفوف الركاب تقف عرضياً ليخرج من الصف الي محطة الضابط الذي أنهي إجراءات الراكب السابق فلا يحدث زحام ولا قلق…
عندما يختم الراكب جواز سفرة ويسلم بطاقة الدخول الورقية التي لا لزوم لها فإنه يجد رجل أمن أخر يتأكد من أن الضابط السابق قد ختم الجواز!!!!
يتحرك الراكب بعد ذلك الي استلام الحقائب التي تتأخر في العادة لنقص عدد عمال التحميل لسير الحقائب رغم تكدس المديرين والموظفين بوجه عام في المطار . َ
سير وصول الحقائب يقع جغرافيا متداخلاً مع صفوف الركاب أمام مخرج الجمارك .. المهم أن كل راكب يلتقط حقائبه من مسارها ليجد أمامه بابان للخروج ، واحد لمن لا يحمل بضائع يستحق عليها جمارك وآخر أحمر لمن يحمل بضائع تستحق. في مصر هذا لا يهم ، لأن الكل يتعرض لفتح جواز سفره مرة أخري وللسؤال” هل معك ما يستحق الجمركة؟!” ، ولا يمكن التعرف علي المعيار الذي علي أساسه يتم تفتيش راكب وترك الآخر لأنه في كل الأحوال ، الكل يشعر أنه متهم .
بمجرد المرور من هذا الزحام الذي لا لزوم له والذي يمكن تيسيره جغرافيا وعمليا يخرج المسافر من التفتيش الجمركي ليجد رجل أمن شكلي آخر علي باب الخروج ، بعدها يجد نفسه أمام ناضورجية يتلقفونه ، يعرضون عليه وسائل مواصلات لأنه لا يوجد مخرج مباشر الي مكان انتظار السيارات ، ولا توجد صفوف منتظمة للتاكسي ، ولا يُسمح أساساً بوجود سيارة في انتظارك في مكان مناسب عند باب الخروج، ولو كنت مسافر دائم مثلي ، فستصعد الي مكان السفر وليس الوصول لأن حركة السيارات أيسر عند السفر عنها عند الوصول..
هل من الممكن التخلص من كل التعقيدات وتنظيم حركة نقل المسافرين ؟؟؟
والإجابة نعم ..في يوم وليلة.. إن كنا جادين… فتكرار الأفعال بحجة الأمان ، وتعقيد الإجراءات ، هو تَعَود علي بيروقراطية تساهم في الإحساس بأن بلادنا فيها حاجة غلط ، وهي ليست في الحقيقة كذلك.
التزيد في الإجراءات ينطبق علي حالة إغلاق حركة المرور أمام مئات السيارات في ساعات الذروة للتحقق من رخص السيارات بهدف اكتشاف مخالف واحد أمام تعطيل مائة عدم مخالف ورائه. الفلسفة تقول أن حق التسعة وتسعين في الحركة وتيسير مسارهم أهم و أفضل من تعطيل الجميع من أجل اكتشاف مخالف واحد.
كمائن الأمن في الشوارع التي تبدأ أحياناً لسبب وجيه ، وينتهي سبب وجودها ، ولكنها تظل موجودة تسد حارة من حارات المرور بلا معني ونسميها كمائن رغم أن الكل يعرف مكانها.
مثل آخر نراه في تأمين بعض المناطق الجغرافية كمنطقة الأثر الأهم ، الأهرامات ، أو أمام بعض السفارات (السفارة الإنجليزية والأمريكية) في جاردن سيتي بإغلاق الشوارع أمام الجمهور بتزيد ، والحقيقة أن الأمن لا يتحقق بالمظاهر وإغلاق الطرق بل يتحقق بالعلم وحينها لانشعر بوجود رجال الأمن … كان حماي، حسن أبو باشا ، وكان وزيراً قوياً للداخلية وسياسياً من الدرجة الأولي يقول لي،” كلما شاهدت اجراءات أمنية مكثفة وعربات ورجال أمن بكثرة في الشوارع فاعلم أن الأمن ليس مستقراً، فهذه مظاهر ضعف وليس قوة ،لأن الأمن القوي لا تراه بالعين” .
نفس الشئ ينطبق علي بوابات الامن علي مداخل الفنادق والمولات التي لم تعد موجودة في مداخل المنشئات المدنية في أوروبا أو الولايات المتحدة أو حتي في الخليج ، إلا أننا نصر في مصر علي إستمرار وجودها رغم أننا نعلم أنها أصبحت إجراءات شكلية لا تؤدي قيمة أمنية حقيقية لكننا نتمسك بها وننفق عليها ولا أعرف السبب.
إنها فلسفة إدارة ومفهوم لا يُعني بالحقيقة ، ولكن بالشكل.
هل نستطيع التخلص من كل ذلك؟؟
الإجابة نعم لو لدينا الرغبة والكفاءة ، وفي وقت قصير جداً، علماً بأن الانطباع الإيجابي عن قدرة البلاد علي إدارة دقائق أمورها سيعني الكفاءة في إدارة ساعاتها وأيامها .
لماذا نفعل ذلك بأنفسنا فتخلق انطباعاً سلبياً لدي القادم والمغادر و تكون إيراداتنا من السياحة هزيلة بالمقارنة لدول لا تملك مصادر ثروتنا التاريخية وشواطئنا الجميلة . السياحة لا يوجد فيها ممنوع التصوير ، ولا أذون للتواجد في كل مكان سياحي ، ولا تعقيد في دخولها. السياحة تحترم حرية السائح في الحركة والتصوير والتمتع ، ويهرب الاستثمار من إقتصادنا، ويخاف المواطن والزائر من إجراءات متشددة المظهر ضعيفة المخبر وأحياناً بلا معني…
لم تدرس جدتي إقتصاد ولكنها في مقولتها العبقرية، تتماشي مع قواعد العلم التي تقول أن تحقيق أفضل تنافسية تأتي عندما نحقق الهدف بأعلي كفاءة، في أقصر وقت، بأقل تكلفة في الوقت المناسب .
نحن نَتَزيد ، فيما نفعل ، بحجة الحماية والحرص ، وهو في رأيي المتواضع نقصان .

التعليقات

التعليقات