الخميس , 9 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / عظماء صنعوا الوجدان 4

عظماء صنعوا الوجدان 4

علي مقهي “الحالمون بالغد”
عظماء صنعوا الوجدان((5
يأتي الإمام محمد عبده في مقدمة أهل تنوير عقلي ، ولقد كان لقرائتي سيرته ومؤلفاته أكبر الأثر علي تكوين معتقداتي ، وتثبيت إحترامي للدين الإسلامي من مدخل العلم ، و سعة العقل ،وتعدد المعارف . ولقد كان للأستاذ العقاد الفضل في تقديم محمد عبده اليَ عندما قرأت كتابه ” عبقري الإصلاح والتعليم ، الإمام محمد عبده ” ، وأنا في الثانية ثانوي في مدرسة الأورمان ..
قرأت للإمام كتاب ” الإسلام دين العلم والمدنية ” ووجدت أنه مجدداً فريداً من نوعه ، له منهجية مبنية علي حكمة وفلسفة ، فقد كان يري أن الإصلاح الحقيقي للأمة إنما يكون من خلال نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، والتدرج في الحكم النيابي،و أن الإصلاح ينبغي أن يأتي بالتدريج ليستقر، وليس طفرة فيزول. ( هذا أيضا منهجي وفلسفتي في الإصلاح )
كان الإمام يدرك تمام الإدراك أن العيب ليس في التراث، وإنما العيب في طريقة تناول التراث من خلال منظور تقليدي، لا يتماشى ولا يتجدد مع العصر.
وقال كلمات حكيمة مثل : “إذا ما جهل المرء بأمرٍ فما أيسر عليه من معارضته”
وقال: ” إن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان”
ولقد اهتم الإمام محمد عبده كثيراً بتحليل عقيدة السلف، وهو بهذا لم يكن يسعى لكى يعيش زمانهم، فلم يكن الماضي هو المحرك لأفكاره، بل أن يدافع عن قيم الفكر الحر، والتسامح وحق الاختلاف، وأن يكشف عن الوجه الناصع للإسلام، ويقدمه كدين غير متحجر، لا يجمد في قالب التقليد. ودفاعه عن الفلسفة كان دفاعاً عن الفكر الحر وعن الإسلام كدين يصلح لكل العصور.
وقال :”إن فكراً يكون مقيداً بالعادات مستبداً للتقليد ، لهو فكر ميت لا قيمة له”
إن العقلانية المقترنة بأهمية التقدم في فكر الإمام، تقترن بغيرها من الصفات التي تنظر الى حرية الفكر الإنساني في صيانة العقد الاجتماعي، الذي يقوم على التسامح وتقبل المغايرة، ودعم الدولة المدنية، بما يؤكد مبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، في موازاة مع مبدأ الشورى، الذي يقلل من مخاطر التسليم بمبدأ المستبد العادل. وقد بدأ الشيخ في تجسيد مبادئ الفقيه المستنير، من قبل أن يحصل على شهادة التدريس من الأزهر، وكان يطلب من الطلاب مطالعة الكثير من الكتب، في مختلف المجالات بما في ذلك مجالات الفنون، فاصطدم بنموذج الشيخ التقليدي متمثلاً في الشيخ عليش، الذي حاربه لتفضيله المعتزلة على الأشاعرة، ودعوته إلى تنقية التراث، وكان هذا الصدام بداية المعارك التي لم تتوقف مع مشايخ التقليد حتي الآن .
ومن كلماته المؤثرة “إن الله عالم بكل شئ ولا يُتَقرب الي الله بشئ كالعلم”.
وقال : “الخوف من الضلال هو عين الضلال”
وقال:”كل ما يعاب علي المسلمين ليس من الإسلام ، وإنما هو شئ آخر سموه إسلاماً “
وقال : “شر السلاطين من خافه البرئ”
لقد كان جزاء حرصه على تطوير الأزهر هو اتهام المشايخ له باتهامات باطلة وصلت الى حد تكفيره، وما زالت الاتهامات في عصرنا هذا تدور من هنا وهناك حول ما هو مثل آراء الإمام.
ولا يزال الدين يُفهم كثيراً فهماً خاطئاً، ويُفسر تفسيرات مغلوطة، اعتماداً على بعض الكتب التي تنشر مفاهيم التقليد، والانغلاق والتطرف، وما تزال جحافل الجهل تحاول نشر ظلامها.
ولقد وصفه الكاتب الكبير محمود عباس العقاد بعبقري التنوير، ووصفه الكاتب السيد يوسف برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني، ووصفه آخرون بباعث الدولة المدنية، وإمام المجددين، وقال عنه الكاتب والمفكر محمد عمارة، إنه مجدد الدنيا بتجديد الدين.
لم يكن الإمام الراحل يعلم أن ما نادى لتجنبه قبل قرن ونصف من الزمن يمكن أن يتحقق، وأن ما خشي منه قد يسود. فقد كان بفكره الثاقب يرى أن استخدام الدين مطية للسياسة، يضر بالدين والسياسة معاً، وأن وصول التيارات التي تستخدم الدين وسيلة للحكم في بعض الدول، يضر بالدين والسياسة والحياة. وكانت نظرته المطالبة بإبعاد رجال الدين عن حكم الشعوب، مبنية على أساس أنهم قد يعتبرون رأيهم صواباً يتماشى مع الدين، دون أن يدركوا أنه خطأ يجافي الدين والحياة .
التقى بأستاذه جمال الدين الأفغاني، في منفاه و كان سبباً في تحوله ودافعاً له إلى الإصلاح، لكنهما اختلفا في الأسلوب والوسيلة، ومازال حديثهما و نقاشهما عن الإصلاح يثير الإعجاب والجدل معاً.
كان لا يرى طريقاً للإصلاح الديني سوى بإصلاح الأزهر، وقال في ذلك جملته الشهيرة، “إن بقاء الأزهر متداعياً على حاله أمر محال فهو إما أن يعمر أو أن يتم خرابه”.
ولم تتح لمحمد عبده فرصة إصلاح الأزهر، إلا بعد أن تولى الخديوي عباس الثاني الحكم، حيث أصدر مرسوماً يقضي بإنشاء مجلس لإدارة الأزهر ويضم بين أعضائه محمد عبده، فجدد الإمام بعض الأشياء ، وحاول الإصلاح حتى رحل الخديوي واستقال معه محمد عبده.
ويقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، في كتابه “عبقري الإصلاح محمد عبده” إن الإمام كان ثائراً ولكنه لم يكن عرابياً، كان يؤيد الثورة العرابية في أمرين، أولهما تنبيه الرأي العام وجمع كلمته للمطالبة برفع المظالم، وإصلاح الحكم وإسناد المناصب الكبرى ووظائف الحكومة عامة إلى الوطنيين، وثانيهما هو التعويل على إنهاض الأمة وإقامة نهضتها على اسس التربية والتعليم، وإعدادها للحكم النيابي المستقل، برغبتها الصادقة وقدرتها على صيانته من عبث الولاة المتسلطين. وتوقع محمد عبده أن تنهض أوروبا وتسبق دول العرب والمسلمين، لأنهم يطبقون الإسلام دون أن يعتنقونه من حيث الالتزام، والإتقان والانضباط الخلقي والسلوكي، وأخذهم بالأسباب في إقامة حضارة دون انغلاق فكري، أو جمود عقلي أو الانصياع لحكم الباباوات. وكان يقول إن الحاكم ليس له سلطة دينية فيحكم على عقائد الناس بالفساد أو الصلاح، كما كان يفعل الباباوات في أوروبا، وإنما الحاكم سلطته مدنية….
وفي رحلته إلى منفاه في فرنسا انبهر الإمام الراحل بما رآه من نهضة وتنمية وحضارة، وقال جملته الشهيرة “وجدت هنا إسلاماً ولم أجد مسلمين، وفي ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام”.
وقال: “كل مرة أزور أوروبا إلا يتجدد عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها”.
ويضيف وجدت المبادئ والقيم والمثل العليا، وكلها صفات يطالبنا بها الإسلام، ووجدت أمانة وإتقاناً وإخلاصاً وكلها سمات يحثنا عليها ديننا، وبذلك فهم مسلمون بلا إسلام. كان محمد عبده موقنا بأن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت في الوجود، و اكتسبت قداسة طمست حقيقته التي تدعو للبناء، والرقي المادي والروحي باتساع المكان والزمان، ووفق متطلبات كل عصر.
و من أقواله التي تدل علي فهم سياسي عميق : “الفساد يهبط من أعلي الي أسفل ، والإصلاح يصعد من أدني الي أعلي”
“من لم يكن في مرتبتك من العقل لم يذق مذاقك من الفضل”
ولا يفوتني هنا رأي الإمام في فتواه التي تنفي شبهة التحريم عن الفن التشكيلي والتمثيل والموسيقي عام 1903،(ما زال بعض شيوخ اليوم يحرمونه بعد قرن من الزمان)
قال بعبقرية : ” إن الرسم ضرب من الشعر الذي يُري, أما إذا نظرت إلي الرسم وهو ذلك الشعر الساكت, فإنك تجد الحقيقة بارزة لك, تُمتع بها نفسك كما يتلذذ بالنظر فيها حسك, إذا دعتك نفسك إلي تحقيق الاستعارة المصرحة…فانظر إلي أبي الهول بجانب الهرم الكبير تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسداً. فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة, وشكرا لصاحب الصنعة علي الإبداع فيها.”
كما أثني الإمام محمد عبده علي موهبة الموسيقار داود حسني الغنائية بالرغم من أنه كان يهودياً.
و قد أُودِع محمد عبده السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفي لمدة ثلاث سنوات لتأييده ثورة عرابي.
وجدير بالذكر ، وهو من أسباب إعجابي بشخصيته، أنه علم نفسه الفرنسية في سن الأربعين وهو قاضٍ في محكمة عابدين و تمكّن منها، فاطلع على القوانين الفرنسية وشروحها، وترجم كتابًا في التربية من الفرنسية إلى العربية.
محمد عبده من أهم من حَمَل شعلة التنوير في تاريخ مصر الحديث وقد يتعرف القارئ فور قراءة هذا المقال علي مدي تأثير الإمام علي وجداني ، ويربط ما بين ما أدعو اليه إجتماعياً وتعليمياً وثقافياً وسياسيا ً ، بأفكارٍ طَرَحَها وفلسفة شَرَحها ، ومواقف أعلَنَها . رحمة الله علي عظماء صنعوا وجداني..

التعليقات

التعليقات