سجن الفكر
من القهوة إلى الإنترنت
بقلم د. حسام بدراوي
اتابع بقلق شديد مناقشة القانون الجديد الذي يتم بحثه في البرلمان حول تنظيم الفتوي ، واود قبل إصداره ان أدلي بدلوي قبل ان يعتبر الرأي بعد صدور القانون امراً يعاقب عليه القانون.
كثيرٌ من صراعاتنا الفكرية والدينية والاجتماعية لا تنبع من الخلاف في الجوهر، بل من غموض في المعنى. فنحن نتنازع على الكلمات، دون أن نتفق على تعريفها.
“الفتوى”، “الرأي”، “النقد”، “الدين”، “القانون”،” التأويل “
و ” التفسير” كلها كلمات تُلقى في النقاشات اليومية، لكنها كثيرًا ما تعني شيئًا مختلفًا لكل قائل أوسامع.
فما هي الفتوى؟
الفتوى، في أصلها اللغوي، مأخوذة من الفِتْيا، أي الجواب عن سؤال ديني. أما في الاصطلاح الشرعي، فهي اجتهاد ظني يُقدّمه عالم مسلم مؤهل، ردًا على استفتاءه في مسألة غير منصوص عليها نصًا قاطعًا.
وبالتالي، فهي:ليست حكمًا قضائيًا ، وليست قانونًا عامًا ، ولا تُلزم أحدًا إلا من اختار تطبيق العمل بما جاء بها في حياته.
بل إن أغلب العلماء اتفقوا على أن الفتوى ليست ملزمة شرعًا، وأنها تحتمل الخطأ والصواب، لأنها عمل بشري. وقد قال الإمام الشاطبي:
“المفتي مُخبر عن حكم الله، لكنه قد يُصيب وقد يُخطئ.”
أما النقد، فهو ليس رفضًا للدين، بل هو عملية عقلية تُراجع القول لا القائل، وتُحاكم الفكرة لا النية ، والنقد لا يُفترض فيه أن يهدم، بل أن يُنضج و يدعو إلى إعادة النظر في ضوء مختلف و من زاوية مختلفة.
والرأي، هو تعبير عن موقف أو تحليل أو اجتهاد، قد يكون دينيًا أو علميًا أو وجدانيًا، لا يُشترط فيه أن يكون صائبًا، لكنه يُعبّر عن حرية فكر مكفولة للفرد في اي مجتمع وخاصة في المجتمع الإسلامي الذي يدعوا
الناس لابداء آرائهم و يحسبهم فلذلك حتى أن قول الحق في وجه الظالم
واجب شرعي و اذا قُتل صاحبه دونه فإنه يموت شهيداً.كمن يموت دفاعاً عن دينه أو وطنه أو عرضه أو اهله أو ماله.
أما حين تتعارض الفتوى مع القانون أو الدستور، فهنا يُحتكم في الأمر إلى طبيعة الدولة:
في الدولة الدينية، تُقدَّم الفتوى، ولو على حساب الحقوق المدنية المتفق عليها.
أما في الدولة المدنية، التي تحتكم إلى دستورٍ مدنيّ، فالغلبة للقانون، ولا يُمكن أن يُقيَّد الناس بفتوى، مهما كانت مكانة من أصدرها.
ذلك لأن الدولة المدنية تحمي التعدد، وتفصل بين ما هو تعبديّ خالص، وما هو اجتماعيّ مشترك، وتتيح لكل مواطن أن يعتقد ما يشاء، دون أن يُفرَض عليه ما لم يقتنع به بعقله وإرادته أو بحسه و ضميره.
عبر التاريخ، كثيرًا ما وُوجهت الظواهر الجديدة في مجتمعاتنا بالتحريم والتكفير بناءاً علي الفتاوي، ثم ما لبثت أن تحوّلت هذه المحرَّمات إلى أعمدة من أعمدة الحياة اليومية.
القهوة، مثلًا، حين ظهرت في القرن الخامس عشر، حرّمها شيوخ المسلمين واعتبروها من المسكرات أو من “بدع الشيطان”، وكُفّر من يشربها أو يجتمع لشربها اعتمادا علي فتوي علماء الدين ، واليوم صارت رمزًا للضيافة، ومن مكونات الهوية الثقافية.
طُردت الطباعة من كثير من البلاد الإسلامية لقرون، بزعم أنها “تشوش على القرآن” أو تُستخدم “للنشر الفاسد” و أصبحت اليوم حجر الأساس في التعليم والدعوة والثقافة الدينية ذاتها.
كذلك ُالموسيقى، وتعليم المرأة، والمسرح، وحتى الرياضة… كل هذه نُظر إليها يومًا بعين الريبة أو الحرمة بفتاوي وقتها، ثم أصبحت أدوات نهضة وتنوير. وهذا يفتح سؤالًا خطيرًا: لماذا تتكرر هذه الظاهرة؟ ولماذا تُستخدم الفتوى في صدّ الجديد بدلًا من فهمه؟
في الإطار الصحي والي وقت قريب كانت الدعوة المبنية علي الفتوي بوجوب ختان البنات غير قابلة لللمناقشة برغم وضوح مآسي اجرائها وضررها البالغ و الذي ادي إلى تكريم كن يمارسونها.
اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، ومع كل هذا التطور العلمي، يُطرح في مصر قانون يقضي بمنع أي رأي يقترب من قريب او بعيد من الدين يخالف ما يفتي فيه كبار العلماء، أي احتكار تام لما يُعد “صحيحًا” من وجهة نظرهم ، وتحويل كل تفكير مستقل أو اجتهاد جديد إلى جريمة.
إننا أمام عودة مُقنّعة للدولة الدينية، ولو تحت غطاء قانوني مدني. فحين يُقنّن الاحتكار الفكري، وتُغلَق أبواب الاجتهاد، ويُجرّم النقاش، فنحن لا نحمي الدين، بل نحبسه في قوالب الماضي، ونجعل من الفتوى سيفًا فوق رقاب المفكرين.
واذا كانت الفتوي غير ملزمه فلماذا القانون و لماذا التخصيص. ؟
ودعونا نتساءل ، ما الفرق بين الفتوى والرأي؟ وهل الفتوى علم أم سلطة؟ وما علاقتها بالبحوث العلمية والمراجع الرصينة؟
الفتوى، في جوهرها، اجتهاد بشري، يُفترض فيه أن يُبنى على مقاصد الشريعة وظروف الزمان والمكان. وهي غير ملزمة شرعًا، لأنها ليست حكمًا قضائيًا، بل رأي ظني يحتمل الخطأ والصواب.
أما الرأي، فهو تعبير عن فهم أو موقف أو تحليل، مبني على حرية التفكير.
وإذا تداخلت الفتوى مع العلم، فمن حق المتخصصين في الفقه، كما في الطب أو الاقتصاد، والفيزياء أن يُدلوا بآرائهم، لكن دون أن يُسكتوا الآخرين.
فإذا أصبحت كل فتوى “مقدسة” لا يجوز مناقشتها، فإننا نُعلي من سلطة البشر فوق العقل، ونُحاكم الباحث والمفكر والأديب إن خالف السائد، ونضع الإبداع في قفص الاتهام.
إن الدولة المدنية الحديثة لا تُعادي الدين، لكنها تفصل بين ما هو ديني تعبدي، وما هو مدني إنساني قابل للنقد والمراجعة. ولا ينبغي لأي مؤسسة، مهما كانت، أن تحتكر تفسير الدين أو تمنع النقاش باسمه.
نحن لا نحتاج إلى قانون يمنع النقد، بل نحتاج إلى مساحة للفكر والاجتهاد، وحقّ في السؤال والنقاش. فبذلك فقط نحمي الدين من الجمود، ونحمي الدولة من الانغلاق، ونحمي الإنسان من الاستبداد.
وقد قال الإمام الشافعي، أحد أعمدة الفقه الإسلامي:
“قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.”
فأين هذا التواضع العلمي من التعصب الفكري الذي نراه اليوم؟
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “القرآن حمّال أوجه، فخذوه على أحسن وجوهه.” فإذا كان النص نفسه متعدد الدلالات، فكيف نحصر تأويله في فتوى واحدة، ونمنع غيرها؟
وفي التاريخ الإسلامي أيضًا، لما سُئل الإمام مالك أن تُعمَّم “الموطأ” كتابه الفقهي ليكون قانونًا رسميًا للدولة، رفض وقال:
“قد بلغني أن أهل العراق عندهم علم، وأهل الشام كذلك، فلا تجعلوا الناس في ضيق.”
هكذا فهم الكبار أن تعدد الآراء رحمة، وأن الفقه ليس دينًا في ذاته، بل اجتهاد بشري لفهم الدين.
أما من التاريخ الحديث، فلنتأمل ما قاله المفكر الإمام محمد عبده:
“ليس في الإسلام ما يمنع المسلمين أن يسيروا في أي طريق يحقق لهم القوة والعزة، حتى لو سار فيه غيرهم قبلهم.” أي أن السبق لا يُعيب، والاجتهاد لا يُمنع.
أكثر من مره نادي رئيس البلاد بتجديد الخطاب الديني ، ولكننا الآن أمام مشهد جديد، مجلس النواب وافق من حيث المبدأ علي قانون قدمه من يريدون احتكار الفتوي والكلام في الدين لمجموعة واحدة من الشيوخ ، انها الدولة الدينية الجديدة التي تناقض الدستور .
ولقد سألت وبحثت ووجدت أن هذا قانون مخالف للقرآن الكريم و للسنة الشريفة و لإجماع الصحابة و الخلفاء و العلماء و الائمة المفسرين.
ففي سورة آل عمران الآية السابعة:
” فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله “
و في الحديث الشريف:” استفت قلبك و لو افتاك الناس و افتوك “”أينما كانت المصلحة كان شرع الله”
هذا القانون هو احتكار للرأي و يسد باب إعمال الفكر و منع تجديد الخطاب الديني.
القانون هو نكسة و انتكاسة.
أن التفكير وإعمال العقل فريضة إسلامية، وكيف لا وهو دين يخلو من الكهانة والوساطة بين العبد وربه؟! حيث يتجه الخطاب القرآني إلى الإنسان الحر العاقل ليحثه على أن يتفكر في آيات الله بالكون ونفسه؛ ليدرك حقيقة وجوده ، فلا كهانة ولا وساطه بين المسلم وربه.
إنني اتعجب وخبرتي تقول انه لا يوجد في السياسة صدف، وأري هدفا سياسياً لعودة فكر الإخوان السلفي الترصدي، والله أعلم.