الخميس , 9 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / الچينات والميمات – حسام بدراوي

الچينات والميمات – حسام بدراوي

الچينات والميمات
حسام بدراوي
يقول الأستاذ العقاد إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص ، نحرم أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتي من الضد ، ونتورط في الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق.
والتاريخ يقول أن صاحب الفكرة الجديدة قد يُعتبر مجرماً في إطار ثقافي متزمت حتى يُكتب لفكرته النجاح.
ويقول ابن رشد أن الأفكار لها أجنحة ولا يمكن كبح جماح انتشارها حتي لو أحرقنا الكتب التي احتوتها أو قتلنا الإنسان الذي ابتكرها ..
لقد وجدت أنني قد لا أقتنع بفكرة ولكني لا أخاصم المفكر ، وأعجبني قول جاليليو “من السهل أن تفهم أي حقيقة بعد اكتشافها، لكن الفكرة في اكتشافها” ، وقد يموت شخص، وقد تنهض الأمم أو تتقوض، لكن الفكرة تستمر في الحياة ، فالأفكار لا تنتهي صلاحيتها إن كانت تستطيع مواجهة الثوابت التي ترتاح لتصديقها العامة ، وعلينا أن نفهم أنه يصبح للفكرة قوة عندما تستولي على وجدان الجماهير أو يفرضها البعض بالتكرار في أذهان الجموع…..ولقد أصبح هناك علوماً في كيفية فعل ذلك في العصر الحديث ، وخلق حقائق ليس لها برهان ، قد تنتشر وليس فيها صفات الصلاحية.
ما معني “التطور الثقافي “
سؤال لم أفكر فيه الي أن قرأت كتاب ل”كلينتون ريتشارد ديكنز” بعنوان “الچين الأناني” وآخر بعنوان “النمط الظاهري الموسع” .
عندما نشر كتابيه فيهما عن نظرية تطور الأفكار ، وقام بصياغة مصطلح ال” ميم “، تعمقت ووجدت أن الأفكار تشبه فعلا الچينات، فالچينات تحمل معلومة وراثية بداخلها تتناقل وتتكاثر كما تحمل الأفكار معلومات ومعرفة تتناقل وتتكاثر ولكن بوسائل مختلفة. في حالة المادة الوراثية فإن الحمض النووي يحمل المعلومة التي هي عبارة عن تعليمات كيميائية ترشد الخلية وتملي عليها كيفية بناء البروتينات اللازمة ، التي يحتاجها جسم الكائن الحي للبقاء علي قيد الحياة، والتكاثر سواء كان ذلك الكائن بكتريا لا نستطيع رؤيتها الا بالمجهر ، أو كائن ضخم كالحوت أو الفيل مثلاً،
فهناك دافع داخل تركيبة چينات الخلق للتكاثر لتصنع نسخاً أكثر من نفس المخلوق باستخدام مادتها الوراثية ،
من دون هذا الدافع تموت المادة الوراثية ويندثر المخلوق.
مادتنا الوراثية تتشارك في سمات مثيرة ومميزة مع الأفكار والأساطير ودروس الحياة القاسية، فجميعها تتضمن رسائل ودافع للتكاثر والتضاعف و الإنتشار.
ومع أن هناك فارق كبير ما بين الحياة البيولوجية والأفكار، إلا أن هناك رابط بين الإثنين، فالأفكار المتضاعفة والمنقسمة ذاتياً تشبه كثيراً الجينات، وهو ما دفع ديكنز لصياغة نظريته ، وخرج بمصطلح “الميمات” تساوي “الچينات” “gene=mem”
إن تناسخ المعلومات وتناقلها هو المبدأ الأساسي الكامن والمشترك بين الچينات والميمات..وقد أدرك تشارلز دارون ووثق أفكاره عن مبادئ التطور عن طريق الإنتقاء الطبيعي ، والذي بالرغم من الكم الهائل الذي كتب عنه ، كان بحثه يدور حول ثلاثة مبادئ أساسية: التكاثر ، والطفرات ، والانتقاء الطبيعي ( البقاء للأصلح) . وإذا أعدنا صياغة هذه المفاهيم الثلاثة في سياق ما نتكلم عنه ، فالمعرفة والمعلومات تتكاثر ، وتحدث فيها طفرات وتنشأ منها أفكار جديدة ويتبقي الأنسب والأصلح ، وفي إطار هذا فإن الچينات والميمات تتشابه ، وهو ما يسمي علم ” الميمياء ” memetics ” والذي قد يكون أساس علم تطور المعارف والأفكار الإنسانية وتفسيرها..
إن تعريف “الميْم” بسيط ، إنه مجرد فكرة ، مفهوم ، معلومة ، أو رأي قابل للتمرير من عقل لآخر ، الأمر الذي يُوَلد عند الإنسان الدافع والرغبة بتمريره ونقله للغير. إن “الميْم “هو أي قطعة أو جزء من المعلومات تتناقلها العقول ، عبر أي آلية ممكنة .
إن الچينات و الميمات كلاهما معلومات ذاتية التناسخ تتكاثر بطرق مختلفة عن بعض ، ولكن بنفس المنهجية، الأول عن طريق العمليات البيوكيميائية والثانية عن طريق التواصل و الإحتكاك بين شخص وآخر ، أو شعب وآخر ، ولكنهما من الناحية الجوهرية مجرد معلومات . والأهم من ذلك هو أن نفس المعلومات التي تحتويها الچينات والميمات تشكل القوة المحفزة والطاقة الدافعة لتكاثرها وتضاعفها.
حياة الميم لها دورة انتقال واستبقاء ، و تختلف الميمات –مثل الجينات- في أهليتها للتضاعف، حيث تبقى الميمات الناجحة وتنتشر بينما تختفي الميمات غير الصالحة وتُنسى.
تحتاج الميمات في البداية إلى الاستبقاء. فكلما طالت مدة بقاء الميم عند مجموعة من البشر، كلما زادت فُرصه في الانتشار.
ولكن الاستبقاء غير كاف لإدامة الميم لمدة طويلة، لذا تحتاج الميمات إلى الانتقال.
تنتقل المعلومات سواء رأسيا (من الوالدين إلى الطفل) أو أفقيا بالعدوي مثل (الفيروسات) و تستطيع الميمات التكاثر والتضاعف رأسيا أو أفقيا داخل جيل حيوي واحد و قد تبقى الميمات خاملة أيضا لفترة طويلة من الزمن.
تنتشر الميمات عن طريق النسخ من عقل الي آخر بالتواصل وأحياناً بالتقليد و يشتمل التقليد عادة على نسخ تصرف من فرد لآخر. قد يكون التواصل مباشرا أو غير مباشر، حيث تنتقل الميمات من فرد إلى آخر من خلال نسخة مخزنة في مصدر غير حيواني مثل الشعر والكتب أو القطع الموسيقية والأفلام .
لينتشر “الميْم ” فعليه أن يتمتع ببعض الخصائص والسمات التي إحتاجتها الأديان والأساطير الشعبية التاريخية ، مثل قابليتها للتصديق، و أن تخص عدد كبير أو كل المجتمع ، و أن تكون سهلة الإنتشار و الانتقال، و أن يكون المناخ مستعد لها تماماً أو مضاد لها مطلقاً ، ففي الحالتين فإن الإنتشار يكون ممكناً بشكل أكبر.
إن الجهل يولد الثقة والكبرياء أكثر مما تقدمه المعرفة، فهؤلاء الذين لا يعرفون الا القليل هم من يؤكدون أن المشاكل لن تحل بالعلم بل بالإيمان وتصديق ما ليس له برهان، وهذا التصديق يتكاثر وينتشر ويتعرض لطفرات ويتم فلترته عبر الزمن..
وأود هنا أن أرجع للتاريخ في نشأة “ميم” التعصب والتشدد .”ميم ” التعصب بدأت بالمطلقات في الفكر ثم بتكفير المختلف دينياً ثم الرغبة في القضاء علي كل من ليس علي عقيدة الأغلبية…
“ميمات” التعصب يخلقها الجهل في كل العصور وكلما إزداد الإنسان جهلا فهو يتهرب من الحوار ويزداد إصراره علي ما يظن أنه مطلق ولا يستطيع إقناع الآخر بمعتقداته، التي حصل عليها سابقة التجهيز والتي تَدَخل في تجهيزها بشر اعتبروا أنفسهم حماة الدين وفرضوا سيطرتهم باسم الله علي باقي البشر حولهم.. والتاريخ يحكي أن طريقة فرض هذه المعتقدات كانت بنشر الدعوة تحفيزاً أحياناً و بالقوة والقهر ولا مانع من القتل بل والمذابح التي حكاها التاريخ أحياناً أكثر.
الديانة اليهودية مثلاً، بدأت بجعل الله إلها لبني إسرائيل فقط ، وجسدته ، و بدأت ميم التعصب ونشرته ، وتكاثر هذا “الميم” وغزا “ميمات” المسيحية بل والإسلام أيضاً بكل أسف..
الميمات تتكاثر ويحدث بها طفرات ولا يتبقي منها الا الأنسب والأصلح ، وهو ما يحتاج لزمن طويل لا يحتسب بالعشرات بل بالآلاف ، لذلك فإنني بتفائلي ونظرتي المستقبلية أتوقع اندثار “ميمات” التعصب وبقاء التسامح والمحبة للإنسانية ، ولكن لابد لنا من نشر أفكارنا الإيجابية، والحوار مع أطفالنا وشبابنا لأن الأفكار ذات الأجنحة تحتاج الي الدوافع والحماية وخلق المناخ لتكاثرها أمام طفرات الجهل .
الوصايا العشر من موسي ومثلها في كل ثقافات الإنسانية ، ودعوات المحبة والتسامح التي نادي بها عيسي ، ومكارم الأخلاق ورحمة الخالق و عدالتة والدعوة للتعلم ورفع قدر العلماء التي جاء بها محمد هي “ميمات” بمفهوم الكلمة انتشرت وأصبحت جزء من الإنسانية ولكنها تتضاد وتواجة ” ميمات ” الجهل والتسلط والعنف والغلظة والترهيب والتخويف وأحادية الفكر.
الجديد هو «ميم الإنترنت» و هو مفهوم ينتشر الآن بسرعة من شخص لآخر، في الغالب عبر البريد الإلكتروني، والمدونات، والمنتديات، ولوحات الصور، ومواقع التواصل الاجتماعي، والتراسل الفوري، ومواقع الأخبار الاجتماعية ، ومواقع المشاركة المرئية مثل يوتيوب وتويتر وفيسبوك.
أن هذا يمثل تطورا في إنتشار الميمات التي تتدخل التكنولوچيا الحديثة في إنتشارها ، فهي لا تمثل الإنتشار الطبيعي للميمات كما كان يحدث في الماضي. نفس الشئ يحدث في الطفرات الچينية المصنوعة من الإنسان ، والتي لا تتماثل مع نظرية دارون في الإنتقاء الطبيعي، فإن هذه الطفرات المصنوعة قد تؤدي في المستقبل الي تغير جوهري في شكل المخلوقات وتصرفاتها وقد يؤدي الي عدم توازن مقلق ومخيف.
الطبيعة عبر ملايين السنين بشكل تدريجي أدت الي ما نحن عليه الآن كبشر بيولوچياً ، والي إنتشار ميمات بعينها إرتبطت بنمو العقل البشري وخياله وقدرة إستيعابه، ولكن تدخل الإنسان واستخدامه العلم ليحقق أهدافاً بعينها قد يقلب موازين التدرج ، ويخلق مستقبلاً جديداً لا يعتمد علي التطور الطبيعي، لم تعرفه البشرية من قبل وقد تكون غير مستعدة له.

التعليقات

التعليقات