«بين الدبة والإوزة»
بقلم حسام بدراوي
تروى قصة أن لدى رجل وزوجته إوزة يخرج منها بيضة ذهبية كل يوم، وبغباءٍ افترضا أن الإوزة لا بد أن تحتوى على كمية كبيرة من الذهب فى داخلها، وبالجشع الإنسانى قررا أن يذبحاها لكى يحصلا على كل الذهب بداخلها، فاكتشفا أن الإوزة لا تختلف عن الأخريات. مُلاك الإوزة الذين يأملون فى أن يصبحوا أغنياء، ويسددوا ما عليهم من التزامات، حرموا أنفسهم من المكاسب التى كانوا يحصلون عليها كل يوم من البيض.
القصة قديمة ولكنها تتكرر على مستوى الأمم والحكومات.
قال شاب: لى أصدقاء كثيرون فى شركات صغيرة ومتوسطة (الإوزة) عندهم معاناة شديدة فى العمل.
قالت زميلته: هناك تناقض بين ما تدعو إليه الحكومة من تشجيع القطاع الخاص وبين الضغط الرهيب على نفس القطاع، خصوصًا الصغير والمتوسط.
قلت: أعلم بجدية الحكومة، وأتفهم فى ظل أزمة مالية طاحنة رغبتها فى جنى أكبر قدر من الضرائب لتمويل موازنة الدولة وسداد ديونها.
وأضفت: إننى فى إطار المصارحة الوطنية، وتأكيدًا على ما تقولونه، فإننى قابلت فى الأسابيع الأخيرة العديد من أصحاب الأعمال الذين يصرخون من ملاحقات ضريبية يعتبرونها جائرة لشركاتهم على سنوات مضت وأُغلقت ملفاتها من عشرات السنوات، والتهديد بسيف التهرب الضريبى والسجن أو سداد ضرائب وفوائد على خسائر تحققت لا تعترف بها المصلحة.. ولولا إننى أثق ثقة مطلقة فى بعض من قالوا لى تفاصيل قاسية ما ذكرت ذلك.
وفى نفس الوقت فإن الخروج من السوق بإعلان إفلاس أو لتكرار الخسائر شيء أشبه بالمستحيل لأن الحكومة ستلاحق المستثمر بلا رحمة حتى لو كان إغلاقه للعمل ناتجًا من خسائر حقيقية… فالحكومة تعتبر نفسها على حق دائمًا وهى الأقوى وتملك يدًا غليظة.
وعلى الجانب الآخر فإن أمامى شواهد عديدة لمستحقات للقطاع الخاص على مؤسسات تابعة للحكومة لا تسددها الحكومة، رغم أن القروض التمويلية من البنوك التى مولت هذه المشاريع لا تتوقف عن حسابات الفوائد التى تأكل أرباح القطاع الخاص ثم تمتد إلى تحقيق الخسائر على مشروعات كانت رابحة.
أمر يتكرر، وأراه كل يوم، يأكل الأرباح ويلقى بالشركات إلى ظلمات موحشة، ولا يحمى أحد هؤلاء المستثمرين فى هذه الحالات، رغم أنه فى المقابل، فإن تأخر سداد مستحقات الدولة التى تفترضها ثم تفرضها، والتى لا تعترف بميزانيات الشركات، لا يحمى المستثمر بل يضعه فى موقف إما السداد الظالم، أو التحايل، أو الرضوخ إلى عدم توازن القوى وعدم تطبيق العدالة فى وقتها.
إن علينا أن نعلم أنه لا أنا ولا أنتم تعرفون ما تتعرض له البلاد من مؤامرات، وضغوط، بهدف خلق فوضى غير مطلوبة وغير صحية لمجتمع يحاول الخروج من أزماته الاقتصادية والاجتماعية فى ظل أزمة عالمية خلقتها حرب أوروبية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وسبقتها جائحة لم تكن من صنعنا بل كنا من ضحاياها، وسبق ذلك خريفًا وشتاءً عربيًا سماه من أنشأه بالربيع العربى وأثناء كل ذلك إرهابًا يلاحقنا يلطمنا ويقتل شبابنا ثم أتت الحرب الشنيعة فى غزة فى السنتين الأخيرتين وضياع أكثر من نصف إيرادات قناة السويس بإرهاب فى جنوب البحر الأحمر، ودعوة سلفية تشدنا إلى الخلف حضاريًا.
قالت الشابة خريجة العلوم السياسية: الحقيقة نحن نفهم الضغط السياسى والاجتماعى والاقتصادى على مصر من جراء كل ذلك، ولكن يا دكتور أزمتنا الاقتصادية، تنبع من الداخل قبل الخارج… ولنستطيع الخروج من أزماتنا، فلابد من عدم تكرار ما فعلناه فى السابق، وبنفس الطريقة، لأن العلم السياسى يقول إننا سنصل لنفس النتيجة التى أدت إلى ما نحن فيه.
وأزمتنا الاجتماعية والاقتصادية تحتاج رؤية متكاملة تواجهها، تبنى على أكتاف ما يتحقق وتعتمد على فلسفة جامعة وليس طفرات تخطر على بال وزير أو رئيس حكومة، فمهما كان حسن النية فهو لا يكفى لتحقيق النجاح، ولا تكفى النزاهة بدون كفاءة، ولا عبقرية فردية بدون عمل جماعى مؤسسى، ولا التنمية بدون استدامة.
قلت: أنا منبهر يا بنيتى، زيدونى من أفكاركم.
قالت زميلتها: أود أن أذكرك بمقالك عن النصف الذى تكلمتَ عنه فى كتابك «حوارات مع الشباب لجمهورية جديدة»، وحاورك فيه المحاورون فى البرامج التلفزيونية، وكتبت عنه فى المصرى اليوم وقلت فيه، (وأخرجت أوراقها وقرأت):
«هل نحن مستعدون للاختيار؟! وهل نحن مستعدون للحسم الثقافى والاجتماعى والسياسى الذى لا يخدم فقط تنوير العقول ويغيّر شكل مستقبل البلاد ويلائم تطور البشرية، بل يكون صانعها؟ أم نريد نصف انفتاح ونصف انغلاق؟! إذن فلنقرر فى الحوار ونفعل.
هل نريد قطاعًا خاصًا قويًا خالقًا لفرص العمل، أم نريد قطاعًا تملكه وتتحكم فيه الحكومة، أم النصف من ذلك والنصف من هذا انتقائيًا حسب الظروف؟!
هل نريد مجتمعًا مدنيًا قويًا وجمعيات أهلية فاعلة، يساند وينمى أم نتفذلك فى قوانين تقتله فى مهده وتمنعه بحجة البيروقراطية.
هل نحن دولة مدنية حديثة أم دولة دينية رجعية؟ كل ما يحدث أمامى يقول إننا فى النصف، فلا نحن دولة دينية بمعناها الكامل ولا نحن دولة مدنية بمعناها الكامل، فنحن نسمح بقوانين تمنع مناقشة ما هو إنسانى بحجة أنه إلهى. والآن نعود إلى نظام الكتاتيب ونضع التربية الدينية جزءًا من مجموع الثانوية العامة، ويراقب التعليم فى المعاهد الأزهرية اللجنة الدينية فى البرلمان وليس لجنة التعليم!
نعمل الأيام والليالى، ونُكّون اللجان، عبر الأزمنة لنخرج للعالم باستراتيجيات تحفظ حقوق الإنسان، ونكلم العالم بشكل ونتعامل مع بعضنا بشكل آخر، فلا نحمى المرأة من انتهاك حقوقها، ندَّعى الحفاظ على حقوق الإنسان، ونتمسك بالمواطنة فى الدستور، ولا نتجرأ إلى رفع خانة الديانة من بطاقة الهوية تأكيدًا لأن هوية المواطن مرتبطة بالدين وليس الوطن.
ندَّعى حماية الحريات، ونسمح بالحبس الاحتياطى بالسنين، وبدون إجراء تحقيقات تستحق التحفظ على المتهم، وكلنا يعلم أن الحبس الاحتياطى أصبح عقوبة فى حد ذاته تتحكم فيه السلطة التنفيذية بقيود شكلية.
كلها أمثلة لواقع يمكن تعديله بجرة قلم، وبسرعة.
عليكم أنتم، صناع المستقبل، أن تُبحروا فى عواصف المتغيرات المحلية والدولية بالعقل ومراجعة الحقائق قبل الاندفاع إلى أخذ المواقف. وعلى أجهزة عديدة فى الدولة، خاصة التى تتعامل مع المواطنين، من الحذر من استمرار وقوع السيستم رغم الرقمية أو فى التزيد فيما يظنونه حماية من الفوضى، لأنه أحيانًا ما يصبح سببًا فيها.
بدأت الحوار بقصة وأنهيه بقصة الدبة التى تحب صاحبها وتريد حمايته من ذبابة تقف على رأسه فتقضى عليه بحجر تريد به إبعاد الذبابة حتى لا تضايقه».
تداخلت فى الحوار والدة واحد من الشباب قائلة:
«عزيزى د. حسام.. أعادتنى مقالاتك وحواراتك الممتعة مع الشباب النابه إلى حكاية موقف المواطن المطحون من الإوزة والدبة.
ماذا يفعل المواطن مع الرعب من عودة الفوضى وانعدام الأمن والخوف من عودة الحكم الدينى السلفى؟!
فلنعذر المواطن العاقل، الفقير الجائع، إذا ما ذبح الإوزة عملًا بالمثل: (احيينى… بإوزة… النهارده وموتنى بكرة).
ولنعذر المواطن العاقل، المتوجس الخائف، إذا ما ارتمى فى أحضان الدبة عملًا بالمثل: (الدب اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش).
يا عزيزى وأنت تعلم، فإن الدعوة للإصلاح يجب أن تبدأ بإصلاح منظومة التربية والتعليم ومنظومة الرعاية الصحية ومنظومة العدالة وتوحيد المفاهيم الأساسية فى إطار حرية التعبير وتنمية المهارات وخلق فرص العمل للكفاءات واعتناق سياسة اقتصادية واضحة ومستدامة تنفيذًا لخريطة طريق متفق عليها وخطة تنفيذية مفصلة مع ترسيخ استقلالية جهات التشريع والرقابة والمساءلة.
باق من الزمن أقل من ٥ سنوات ونصبح فى عام ٢٠٣٠، وعدم المسير للأمام فى اتجاه الدولة المدنية الجديدة ليس معناه فقط التوقف كما نحن (محلك سر)، بل، للأسف، معناه السياسى الحضارى (التقهقر للخلف).
النهضة لن تأتى أبدًا قبل أن تسبقها يقظة للمجتمع».