الخميس , 9 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / «عظماء صنعوا الوجدان..» 5 جبران

«عظماء صنعوا الوجدان..» 5 جبران

«عظماء صنعوا الوجدان..»
حسام بدراوي
استكمالًا لذكر مدى تأثير مَن أهديهم كتابى «دعوة للتفكير»، أكتب اليوم عن شخصية يقول كل مَن حولى من أسرتى وأصدقائى إننى لا أكف عن الإشارة إلى كلمات صاحبها في أحاديثى معهم، وأُعيد تكرار بعض جمله، مما يدل على عمق تأثرى بمعانيها.. وهو جبران خليل جبران.
كتابه الذي استقيت منه الكثير هو «النبى»، الذي كتبه بالإنجليزية، في بداية القرن العشرين، وتُرجم أكثر من أربعين ترجمة إلى اللغة العربية، كان أفضلها وأحلاها من وجهة نظرى هي ترجمة الدكتور ثروت عكاشة.
يقول د. عكاشة عنه إنه عصارة من الألم والتجربة والمحنة، صيغ بجمال وحكمة.
«جبران» كان صادقًا مع نفسه، وكانت حياته ومشاعره واضطرابات نفسه وخلجات ضميره وخوفه وقسوة ما حوله من ظروف ومرارة عيشه تجرى على قلمه وريشته. وقد يكون شغفى بتعلم الرسم وأنا في سن الستين تأثرًا به لأضيف إلى كلماتى لوحات تكمل معانيها كما كان يفعل «جبران»، فقد كانت فرشته هي صولجانه بعد قلمه.
يقول «جبران»، في واحدة من أجمل حكمه عن الزواج، وأقتنع وأردد:
«لقد وُلدتما معًا، ومعًا تظلان..
ولكن، فليكن بينكما فسحات..
وليحب أحدكما الآخر، ولكن لا تجعلا من الحب قيدًا..
بل اجعلاه بحرًا متدفقًا بين شواطئ أرواحكما..
ولتنهضا متكاملين.. لكن دون أن تتلاصقا..
وليملأ أحدكما كأس رفيقه، ولكن لا تشربا من كأس واحدة..
وليُعطِ أحدكما الآخر من رغيفه، وحذارِ أن تجتمعا على رغيف واحد..
غنِّيَا.. وارقصا.. وامرحا معًا، ولكن ليَخْلُ كلٌّ إلى شأنه..
فإن أعمدة المعبدتقوم على انفصال..
وأوتار القيثارة تشدو وإن شدت على افتراق..».
ويقول «جبران» عن الأطفال، وهى حكمة التعامل مع الشباب أيضًا، سواء كنا آباء أو معلمين، وهو ما توغل في وجدانى ولا يزال منهجى في التفكير:
«أطفالكم، ما هم بأطفالكم..
ولّدهم حنين الحياة إلى ذاتها
بكم يخرجون إلى الحياة، ولكن ليس منكم
وإن عاشوا في كنفكم، فما هم ملككم..
قد تأوون أجسادهم، لا أرواحهم..
فلا تحاولوا أن تجعلوهم مثلكم، بل حاولوا أن تكونوا مثلهم
فإن الحياة لا تعود القهقرى.. ولا هي تتمهل عند الأمس».
وينشد، على لسان النبى في كتابه، ما جعلنى أفهم معنى مختلفًا للعطاء يتغلغل في نفسى قائلًا:
«إنك لتعطى القليل.. حين تعطى مما تملك
فإذا أعطيتَ من ذاتك أعطيتَ حقًّا..
وهل ما تملك سوى أشياء ترعاها وتحرسها خشية أن تحتاج إليها في غدك؟
وهل الخوف من الحاجة إلا الحاجة ذاتها؟».
«جميلٌ أن تعطى مَن يسألك.. وأجمل منه أن تعطى مَن لا يسألك وقد أدركت عوزه».
«ما أكثر ما نقول لتَصْبُوَنَّ نفسى للعطاء ولكن لا أعطى إلا مَن يستحق..
ليس ذلك قول الأشجار في بستانك.. ولا الزهور في حديقتك.. ولا القطعان في مرعاك
إنها تعطى لتحيا لأن الامتناع عن العطاء.. سبيل الفناء..».
ثم يقول: «ومَن أنت حتى يكشف الناس لك عن خبيئة صدورهم ويلقوا عنهم رداء الكبرياء، فترى منهم أقدارًا عارية وعزة مبذولة؟.
انظر أولًا: أجدير أنت بأن تتزكّى، وأن تكون للعطاء أداة؟؟.
الحق أن الحياة هي التي تعطى للحياة، ولستَ أنتَ، يا مَن تظن أنك معطٍ، سوى شاهد على ذلك».
وأكاد أرى عبقرية «جبران» في حوار المصطفى مع شعبه عندما يقول عن الثياب:
«لا تنسوا أن الاحتشام درع يقيكم من نظرات أهل الدنس، فإذا زال الدنس، فأى شىء يبقى سوى ملامسة أجسادكم وشعوركم لجمال نسمات الله؟..».
يُعتبر الحب عند «جبران» كما هو عندى شراكة وتناغمًا روحيًّا وكينونة. وقد أطلق بعض الباحثين على مفهوم الحب عند «جبران» اسمًا خاصًّا، ألَا وهو الحب الجبرانى. وكان للمرأة دور كبير في حياته، بل تكوين شخصيته الفكرية والفنية، ولقد كان دمج مشاعر الحب والصداقة واللقاء الحميم على البُعد بينه وبين مى زيادة- التي لم يلتقِ بها جسديًّا أبدًا، ورغم ذلك توحّدا فكريًّا وروحيًّا، حبًّا وصداقة- أمرًا ملهمًا.. ولعل رؤيتى للصداقة بين الرجل والمرأة قد شكّلتها تجارب حياتى مثل ما يصفه «جبران»، وقد قلت في ذلك واصفًا فلسفتى: «الجميل في الصداقة مع المرأة أنه لا لوم فيها ولا احتياج لتبرير فعل أو غياب».
ويقول «جبران»، وأراه في علاقاتى مع أصدقائى: «الصديق المزيف كالظل، يمشى ورائى عندما أكون في الشمس، ويختفى عندما أكون في الظلام».
«ادّخِر لصديقك خير ما في نفسك، فإذا حقَّ له أن يعرف ما يصيب حياتك من جَزْر، فدَعْه يعلم أيضًا ما يغمرها من مَدّ».
«وأى صديق هذا الذي لا تلتمسه إلا لتقضى معه أوقات الفراغ؟، فما وُجد الصديق ليملأ فراغ نفسك، بل ليسد حاجتك، ولتمزجا عذوبة الصداقة بالضحك والبهجة والسعادة».
انتهج «جبران» في كتاباته اتجاهين، أحدهما يأخذ بالقوة ويثور على قواعد السلفية في الدين، والآخر يحب الاستمتاع بالحياة النقية، ويفصح عن الاتجاهين معًا مثلما عبر في قصيدته «المواكب»، التي غنّتها المطربة اللبنانية فيروز: «أعطِنى الناى وغنِّ، فالغنا سر الخلود، وأنين الناى يبقى بعد أن يفنى الوجود».
وتفاعل «جبران» مع قضايا عصره، وكان من أهمها ثورته على التبعية العربية للدولة العثمانية، التي حاربها في كتبه ورسائله. وبالنظر إلى خلفيته المسيحية، فقد حرص «جبران» على توضيح موقفه بكونه يحترم الإسلام ويتمنى عودة مجده، وكان ضد تسييس الدين، سواء الإسلامى أو المسيحى.
وفى هذا الصدد، كتب «جبران»، في مقال وصفه بأنه رسالة «إلى المسلمين من شاعر مسيحى»:
أنا أكره الدولة العثمانية لكنى أحب الأتراك، وأحترق غيرة على الأمم الهاجعة في ظل العَلَم العثمانى.
أنا لا أحب العلة ولكنى أحب الجسد المعتل، أنا أكره الشلل ولكنى أحب الأعضاء المصابة به.. أنا أُجِل القرآن ولكننى أزدرى مَن يتخذ القرآن والأحاديث وسيلة لإحباط مساعى الإسلام الصحيح والمسلمين الحقيقيين، كما أننى أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للحكم وجَزّ رقاب المسيحيين.
ويقول: «الأديان مع اختلافها دين واحد».
إنه كان يحتفظ بيسوع في نصف صدره، وبمحمد في النصف الآخر، ويهمس إلى كل مواطن يعيش في العالم العربى: «أنت أخى، وأنا أحبك، أحبك ساجدًا في جامعك، وراكعًا في هيكلك، ومصليًا في كنيستك، فأنت وأنا لنا دين واحد، وفروع هذا الدين أصابع ملتصقة في يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس».
وقد امتلك «جبران» أسلوبًا أدبيًّا تميز به كثيرًا عن غيره من شعراء وأدباء عصره، ومن أبرز أقواله التي تعبر عن عصرنا هذا:
– «منبر الإنسانية قلبها الصامت لا لسانها الثرثار».
– «بين منطوق لم يُقصد ومقصود لم يُنطق، تضيع الكثير من المحبة».
– «ربما يكون عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين».
– «الحق يحتاج إلى رجلين، رجل ينطق به ورجل يفهمه».
أما عن الحرية، فقد كان مدخله بالنسبة لها مختلفًا عن أغلب ما قرأت، ولكن حكمته بالغة حين يقول عن الحرية:
– «إذا كان أمامك طاغية تريد أن تثلَّ عرشه، فاستوثِق أولًا أنه قد تحطم العرش الذي أقمتَه له في نفسك، فهل لطاغية أن يحكم الأحرار أو الأعِزّة إلا إذا شابَ حريتهم الاستبداد، وخالط عزتهم العار؟».
– «وإذا كان الاستبداد هَمًّا تود أن تتخلص منه، فإنك أنت الذي اخترتَه لنفسك، ولم يفرضه عليك أحد.. وإذا كان خوفًا تود أن تبدده، فإنه يتربع في قلبك أنت، وليس زمامه في يد مَن تخاف».
وأقول: الحرية لا تأتينا، بل علينا أن نصبو إليها ونتحرر داخلنا من العبودية لحاكم ظالم أو لأفكار تتملّك نفوسنا يُمليها علينا آخرون.
وقال «جبران»: «تعلمت الصمت من الثرثار، والتساهل من المتعصب، واللطف من الغليظ، والأغرب من هذا أننى لا أعترف بجميل هؤلاء المعلمين».
وأدركت أننى أكرر المعنى عندما أقول لتلاميذى: لقد تعلمت من أمهر الأطباء، ولكنى تعلمت كثيرًا من أجهلهم وأقلهم مهارة، فقد كنت- وأنا طبيب صغير- أقول لنفسى: تذَكّر ألّا تفعل مثلهم أبدًا.. الإنسان يتعلم دائمًا من كل مَن حوله.
ولعلك أيها القارئ، إن كنتَ قد عرفتَنى، أو قرأتَ لى، أو شاهدتنى، قد أدركتَ مدى تأثير «جبران» على وجدانى وجُملى وكلماتى من وحدة الوجود والأديان لديه، ورؤيته للجمال، وتعريفه للحب والصداقة، وحكمته في العلاقات الإنسانية وتعبيره عن فلسفته بالكلمة والرسم.
رحمة الله على مَن أشجونى بفنهم وأضاءوا عقلى بحكمتهم.

التعليقات

التعليقات