الخميس , 2 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ -‏ عظماء صنعوا الوجدان‏‎

علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ -‏ عظماء صنعوا الوجدان‏‎

علي مقهي “الحالمون بالغد”
“عظماء صنعوا الوجدان…”
إستكمالاً لذكر مدي تأثير من أهديهم كتابي “دعوة للتفكير” و “الجرأة علي التفكير” أكتب اليوم عن شخصية يقول كل من حولي من أسرتي و أصدقائي أنني لا أكف عن الإشارة الي كلماته في أحاديثي معهم وأعيد تكرار بعض جمله مما يدل علي عمق تأثري بمعانيها…وهو جبران خليل جبران..
كتابه الذي استقيت منه الكثير هو”النبي ” الذي يحتفل عالم الثقافة بمائة عام علي اصداره هذا العام و الذي كتبه بالإنجليزية في بداية القرن العشرين وتُرجم أكثر من أربعين ترجمة الي اللغة العربية، كان أفضلها وأحلاها من وجهة نظري هي ترجمة الدكتور ثروت عكاشة .
يقول د.عكاشة عنه، إنه عصارة من الألم والتجربة والمحنة، صيغ بجمال وحكمة.
جبران كان صادقا مع نفسه، وكانت حياته ومشاعره واضطرابات نفسه، وخلجات ضميره، وخوفه، وقسوة ما حوله من ظروف، ومرارة عيشه، يجرى على قلمه،وريشته. وقد يكون شغفي بتعلم الرسم وأنا في سن الستين تأثراً به لأضيف الي كلماتي لوحات تكمل معانيها كما كان يفعل جبران، فقد كانت فرشته هي صولجانه بعد قلمه.
يقول جبران في واحده من أجمل حكمه عن الزواج وأقتنع وأردد:
” لقد ولدتما معاً ،ومعاً تظلان….
ولكن ، فليكن بينكما فسحات…
و ليحب أحدكما الآخر ، ولكن لا تجعلا من الحب قيداً…
بل إجعلاه بحراً متدفقاً بين شواطئ أرواحكما..
و لتنهضا متكاملين …..، لكن دون أن تتلاصقا..
و ليملأ أحدكما كأس رفيقه ، ولكن لا تشربا من كأس واحدة…
و ليعطي أحدكما الآخر من رغيفه ،وحذار أن تجتمعا علي رغيف واحد..
غنيا ….و أرقصا …و امرحا معاً، ولكن ليخل كل الي شأنه…
فإن أعمدة المعبد تقوم علي انفصال…
وأوتار القيثارة تشدو وإن شدت علي افتراق……”
ويقول جبران عن الأطفال ، وهي حكمة التعامل مع الشباب أيضاً، سواء كنا آباءً أو معلمين، وهو ما توغل في وجداني ولا يزال منهجي في التفكير:
” أطفالكم ، ما هم باطفالكم…
ولدهم حنين الحياة الي ذاتها،
بكم يخرجون الي الحياة ، ولكن ليس منكم،
وإن عاشوا في كنفكم، فما هم ملككم…..
قد تأوون أجسادهم ، لا أرواحهم …
فلا تحاولوا أن تجعلوهم مثلكم ، بل حاولوا أن تكونوا مثلهم
فإن الحياة لا تعود القهقرى…..ولا هي تتمهل عند الأمس”.
وينشد ، علي لسان النبي في كتابه، ما جعلني أفهم معني مختلف للعطاء يتغلغل في نفسي قائلاً:
“إنك لتعطي القليل …حيت تعطي مما تملك،
فإذا أعطيت من ذاتك أعطيت حقاً…….
وهل ما تملك سوي أشياء ترعاها وتحرسها خشية أن تحتاج اليها في غدك؟
وهل الخوف من الحاجة إلا الحاجة ذاتها ؟ “
“جميلٌ أن تعطي من يسألك ..وأجمل منه أن تعطي من لا يسألك وقد أدركت عوزه”
” ما أكثر ما نقول لتصبون نفسي للعطاء ولكن لا أعطي إلا من يستحق….
ليس ذلك قول الأشجار في بستانك،….ولا الزهور في حديقتك….ولا القطعان في مرعاك،
انها تعطي لتحيا، لأن الامتناع عن العطاء….سبيل الفناء…”
ثم يقول : ” ومن أنت حتي يكشف الناس لك عن خبيئة صدورهم ويلقوا عنهم رداء الكبرياء، فتري منهم أقداراً عارية وعزة مبذولة؟
أنظر أولاً : أجدير أنت بأن تتزكي ، وأن تكون للعطاء أداة؟؟
الحق أن الحياة هي التي تعطي للحياة، ولست أنت ، يا من تظن أنك معطٍ سوي شاهد علي ذلك”…….
وأكاد أري عبقرية جبران في حوار المصطفي مع شعبه عندما يقول عن الثياب:
“لا تنسوا أن الاحتشام درع يقيكم من نظرات أهل الدنس،فإذا زال الدنس، فأي شيئاً يبقي سوي ملامسة أجسادكم وشعوركم لجمال نسمات الله..”
يعتبر الحب عند جبران كما هو عندي
بريشتي
شراكة وتناغم روحي وكينونة. وقد أطلق بعض الباحثين على مفهوم الحب عند جبران اسمًا خاصًا ألا وهو الحب الجبراني . وكان للمرأة دور كبير في حياته ، بل وتكوين شخصيته الفكرية والفنية، ولقد كان دمج مشاعر الحب والصداقة واللقاء الحميم علي البعد بينه وبين مي زيادة، التي لم يلقاها جسدياً أبداً وبرغم ذلك توحدا فكرياً وروحياً، حباً وصداقة ، أمراً ملهماً.. ولعل رؤيتي للصداقة بين الرجل والمرأة قد شكلتها تجارب حياتي مثل ما يصفه جبران ، وقد قلت في ذلك واصفاً فلسفتي : “الجميل في الصداقة مع المرأة انه لا لوم فيها ولا احتياج لتبرير فعل أو غياب”.
ويقول جبران وأراه في علاقاتي مع أصدقائي: “الصديق المزيف كالظل، يمشى ورائى عندما أكون فى الشمس، ويختفى عندما أكون فى الظلام”
“ادخر لصديقك خير ما في نفسك، فإذا حق له أن يعرف ما يصيب حياتك من جزر ، فدعه يعلم أيضا ما يغمرها من مد”.
“وأي صديق هذا الذي لا تلتمسه إلا لتقضي معه أوقات الفراغ؟
فما وجد الصديق ليملأ فراغ نفسك بل ليسد حاجتك ، ولتمزجن عذوبة الصداقة بالضحك والبهجة و السعادة”
انتهج جبران في كتاباته اتجاهان، أحدهما يأخذ بالقوة ويثور على قواعد السلفية في الدين، والآخر يحب الاستمتاع بالحياة النقية، ويفصح عن الاتجاهين معًا مثلما عبر في قصيدته “المواكب” التي غنتها المطربة اللبنانية فيروز «أعطني الناي وغنّي فالغنا سر الخلود و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود “.
وتفاعل جبران مع قضايا عصره، وكان من أهمها ثورته علي التبعية العربية للدولة العثمانية والتي حاربها في كتبه ورسائله. وبالنظر إلى خلفيته المسيحية، فقد حرص جبران على توضيح موقفه بكونه يحترم الإسلام ويتمنى عودة مجده، و كان ضد تسييس الدين ، سواء الإسلامي أو المسيحي.
وفي هذا الصدد، كتب جبران في مقال وصفه بأنه رسالة «إلى المسلمين من شاعر مسيحي»:
أنا أكره الدولة العثمانية لكني أحب الأتراك ، و أحترق غيرة علي الأمم الهاجعة في ظل العلم العثماني .
أنا لا أحب العلة ولكني أحب الجسد المعتل،أنا أكره الشلل ولكني أحب الأعضاء المصابة به….أنا أُجِل القرآن ولكنني أزدري من يتخذ القرآن والأحاديث وسيلة لإحباط مساعي الإسلام الصحيح والمسلمين الحقيقيين ، كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للحكم وجز رقاب المسيحيين.
ويقول : “الأديان مع اختلافها دين واحد”
إنه كان يحتفظ بيسوع في نصف صدره، وبمحمد في النصف الأخر، ويهمس إلى كل مواطن يعيش في العالم العربي “أنت أخي، وأنا أحبك، أحبك ساجداً في جامعك ، وراكعاً في هيكلك ، ومصلياً في كنيستك فأنت وأنا لنا دين واحد وفروع هذ الدين أصابع ملتصقة في يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس”.
وقد امتلك جبران أسلوبًا أدبيًا تميز به كثيرًا عن غيره من شعراء وأدباء عصره، ومن أبرز أقواله التى تعبر عن عصرنا هذا:
-“منبر الإنسانية قلبها الصامت لا لسانها الثرثار”
-“بين منطوق لم يُقصد و مقصود لم يُنطق تضيع الكثير من المحبة”
“ربما يكون عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين”
“الحق يحتاج إلى رجلين، رجل ينطق به ورجل يفهمه”
أما عن الحرية ، فقد كان مدخله مختلفاً عن أغلب ما قرأت ، ولكن حكمته بالغة حين يقول عن الحرية:
“إذا كان أمامك طاغية تريد أن تثل عرشه ، فاستوثق أولاً أنه قد تحطم العرش الذي أقمته له في نفسك، فهل لطاغية أن يحكم الأحرار أو الأعزة إلا إذا شاب حريتهم الاستبداد، وخالط عزتهم العار؟”
“وإذا كان الاستبداد همّاً تود أن تتخلص منه، فإنك أنت الذي اخترته لنفسك ، ولم يفرضه عليك أحد…… واذا كان خوفاً تود أن تبدده، فإنه يتربع في قلبك أنت، وليس زمامه في يد من تخاف”
وأقول :الحرية لا تأتينا ، بل علينا أن نصبو اليها ونتحرر داخلنا من العبودية لحاكم ظالم أو لأفكار تتملك نفوسنا يمليها علينا آخرين.
وقال جبران : “تعلمت الصمت من الثرثار والتساهل من المتعصب، واللطف من الغليظ والأغرب من هذا إننى لا أعترف بجميل هؤلاء المعلمين”
وأدركت أنني أكرر المعني عندما أقول لتلاميذي ، لقد تعلمت من أمهر الأطباء ولكني تعلمت كثيراً من أجهلهم وأقلهم مهارة، فقد كنت وأنا طبيب صغير أقول لنفسي تذكر أن لا تفعل مثلهم أبدا..الإنسان يتعلم دائما من كل من حوله..
ولعلك أيها القارئ، إن كنت قد عرفتني ، أو قرأت لي ، أو شاهدتني ، قد أدركت مدي تأثير جبران علي وجداني و جُملي وكلماتي من وحدة الوجود والأديان لديه ،ورؤيته للجمال ، وتعريفه للحب والصداقة ، وحكمته في العلاقات الإنسانية وتعبيره عن فلسفته بالكلمة والرسم…..
رحمة الله علي من أشجوني بفنهم وأضاؤا عقلي بحكمتهم .

التعليقات

التعليقات