الخميس , 9 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ -‏ ملحمة النفاق ‎

علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ -‏ ملحمة النفاق ‎

ملحمة النفاق
بقلم حسام بدراوي
‏ ‏يا أهل‎ ‎النفاق‎ !! ‎تلك‎ ‎هي‎ ‎أرضكم‎ .. ‎وذلك‎ ‎هو‎ ‎غرسكم ..‎‏ مافعلت‎ ‎سوى‎ ‎أن‎ ‎طفت‎ ‎بها‎ ‎وعرضت‎ ‎على‎ ‎سبيل‎ ‎العينة‎ ‎بعض‎ ما ‎بها‎ .. ‎فإن‎ ‎رأيتموه‎ ‎قبيحاً‎ ‎مشوها،‎ ‎فلا‎ ‎تلوموني‎ ‎بل‎ ‎لوموا‎ ‎أنفسكم‎ .. ‎لوموا‎ ‎الأصل‎ ‎ولا‎ ‎تلوموا‎ ‎المرآة‎ .‎‏ أيها‎ ‎المنافقون‎ !! ‎هذه‎ ‎قصتكم،‎ ‎ومن‎ ‎كان‎ ‎منكم‎ ‎بلا‎ نفاق ‎فليرجمني‎ ‎بحجر‎ “.
يوسف السباعي “أرض النفاق”‏
تاريخ النفاق في ثقافتنا العربية ،قديم وأصيل وله جذور عميقة وفروع فارهة..‏
قال ابن هانئ في مدح الخليفة الفاطمي حاكم مصر الإمام المعز لدين الله ، قصيدته الشهيرة والتى جاء فى ‏مطلعها…‏
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ٠٠فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ..وكأنّما أنصاركَ الانصارُ
ها إنّ مِصرَ غداة‎ ‎صرْتَ قَطينَها..أحرى لتحسدها بك الأقطار.‏
الخليفة لم يعترض على هذة الابيات بل فرح بها على الأرجح لتجعل الشاعر‎ ‎يتمادى مجدداً ليمنح الحاكم صفة ‏الإلة الذي يقسم الارزاق ويتحكم فى الأعمار فيقول فيه:‏
شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت ‏‎***‎بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار
هذة الابيات كانت منبع وأصل المثل المصرى الشهير ‏‎) ‎أول القصيدة كفر‎(‎‏ فلما سمع المصريين القصيدة، والتى ‏تنافق المعز، وترفع مرتبته لدرجة الذات الإلهية ؛ قال المصريين فى صورة ساخرة ‏‎: “‎أول القصيدة كفر‎”‎، وبذلك ‏سارت مثلا نقوله و نتداولة حتى يومنا هذا، دون معرفة حقيقتة.‏
شعر النابغة الذبياني رفع سقف النفاق ، و تجاوز قول شاعر آخر فى الرشيد ‏‎»‎كأنك من بعد الرسول رسول‎« ‎أو ‏وصف الخليفة العباسى المتوكل ‏‎»‎ظل الله الممدود بينه وبين خلقه‎«‎، وكل أبيات النفاق التى أنشدت فى مدح ‏ملوك بنى أمية.‏
ومقارنة بهذا يصبح بيت النابغة الذبيانى الذى مدح به النعمان أبو قابوس ملك الحيرة، عادياً، رغم ما انطوى ‏عليه من مبالغة سياسية، حيث قال له: ‏
إنك شمس والملوك كواكب.. إذا طلعت لم يبد منهن كوكب.‏
ونقفز الي زمن قريب قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي للأمير فاروق : ‏
‏”فاروق يا أذكى نبات الوادي ‏‎ ** ‎و لمحة الآباء والأجداد” ‏
وأعود الي صلب مقالي عن النفاق وأبدأ بتعريفه . ‏
‏ النِّفاقُ‎ ‎هو‎ ‎القَولُ‎ ‎أو‎ ‎الفِعلُ‎ ‎بخِلافِ‎ ما ‎في‎ ‎القَلبِ‎ مِن ‎الاعتقادِ، ‎والمُنافِقُ‎ ‎هو الذي يظهر تأييده وهو في القلب مستاء ‏إنه ‏‎ ‎ممارسة‎ ‎التظاهر‎ ‎بأن‎ ‎تكون‎ ما ‎ليست‎ ‎عليه‎ بغرض ‎الحصول‎ ‎على‎ ‎الثناء‎ ‎بدلاً‎ ‎من‎ دوافع‎ ‎أخلاقية‎ ‎حقيقية أو ‏الحصول علي مكسب أو فائدة بالتطبيل والهتاف لصاحب سلطة أو خوفاً من بطش وأذية..‏
فلننظر حولنا وسنتعرف علي المنافقين بدون جهد.‏
‏ النفاق‎ ‎السياسي‎ ‎هو‎ ‎فعل‎ ‎قادة‎ ‎سياسيين‎ ‎أو‎ ‎أطراف‎ ‎سياسية‎ ‎يظهرون‎ معتقدات ‎أو‎ ‎قيماً‎ ‎لا‎ ‎يمتلكونها‎ ‎فعلياً‎ ‎أو‎ ‎لا‎ ‎يمارسونها ، أو إظهار مبَالغ فيه للولاء للسلطة خوفاً من بطش أو سعياً لفائدة‎. ‎إنه‎ ‎ظاهرة‎ ‎سائدة‎ ‎وضارة‎ ‎في‎ ‎السياسة‎ تقوض ‎في‎ ‎المؤسسات‎ ‎السياسية وشكاً وريبة في حقيقة نتائج الإنتخابات،‎ و ‎‏ له‎ ‎آثار‎ ‎سلبية ‏متراكمة‎ ‎على ‏المجتمع،‎ ‎تؤدي‎ ‎إلى‎ ‎خيبة‎ ‎الأمل‎ ‎والسخط‎ ‎بين‎ ‎الجمهور‎ ‎‏.‏
النفاق الاجتماعي هو حالة عدم التناغم بين السلوك الظاهر للفرد ومعتقداته أو قيمه الحقيقية و يعبر عن حالة ‏تناقض بين ما يقدمه الفرد للمجتمع من صورة أو تصرفات معينة وبين ما يعيشه أو يعتقده في الخفاء.‏
‏ وأشهر أنواع النفاق المجتمعي هو مسايرة القطيع و التظاهر بالتدين والتقوى ، ولكن في الوقت نفسه التصرف ‏بطرق غير ملتزمة بتعاليم الدين والأخلاق .
ورغم أن ظاهرة ‏‎» ‎النفاق الاجتماعي‎ «‎قديمة قدم البشرية إلا أن‎ ‎أزمتنا المعاصرة تكمن في تفشي تلك الظاهرة ‏لدرجة اعتبارها أسلوب حياة ولغة عصر وشعار زمان، وتتطور في بعض الأمم لتصبح حالة كارثية من الكذب ‏الصريح،‎ ‎وطمس الوقائع، وتزيف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه، . ‏
‏ ‏
هناك ظواهر انتشرت في المجتمع تقترب من النفاق مثل مرض النميمة ، وترديد الأقوال التي ليس لها برهان ‏ولا مرجعية لتصبح حقائق في وجدان الناس وينقلب الحال ليصبح المجتمع لا يرى بالعين، بل يرى بالأذن ‏‏.والآن بعد إنتشار السوشيال ميديا بأنواعها صار ذلك فناً وعلماً وله أهداف.‏
كذلك ‏‎ ‎فإن الخط الفاصل بين المجاملة من باب التأدب والنفاق قد لا يظهر بوضوح لدي البعض فقد تصبح ‏المجاملة الزائدة هي النفاق الصغير.‏
وشر المنافقين قومٌ لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق؛ فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق، فذو الوجهين ‏منافق في العلاقات الاجتماعية كاذب ومخادع في علاقاته ومبادئه متلون في مواقفه ومشاعره.. ‏
إذا كان قانون الفيزياء يقول إن الضغط يولد الانفجار، فقانون الاجتماع يقول إنّ الضغط يولد النفاق . ‏
وهناك درجات إتقان للنفاق ، فالمنافق الخطير هو الذي لا يُدرَك خِداعُه لأنه يكذب بصدق‎. .. ‎و آيته ثلاث: إذا ‏حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف. . ‏
‏ ‏
كتب مفيد فوزي قائلا : “بظهور ثورة يوليو، كان جمال عبدالناصر نفسه مباشراً كالخط المستقيم فى حياته ‏الخاصة وفى حياته كثائر كان مختلفاً عن التوافيق والتباديل الحزبية، كان المصريون يجربون لأول مرة الحكم ‏العسكرى، وكان أعضاء مجلس الثورة يجرب‎» ‎لغته‎ «‎مع الناس، غير أن تقسيم الناس إلى ‏‎»‎الولاء‎« ‎و‎»‎الكفاءة‎ ‎‎« ‎خلق مبكراً دولة النفاق وأعطاها شرعية. فالولاء للثورة كان مفضلاً على الأكفاء، وكان يقال إن الأكفاء ‏ينقصهم ‏‎» ‎الإخلاص‎ ‎الثورى‎ «! ‎وقد اضطر بعض أصحاب الكفاءات للتحايل وربما النفاق وصولاً إلى الرزق ‏وظنى أن الخط ‏‎»‎المنحنى‎ « ‎بدأ يظهر على استحياء ويكبر ويتجذر، وأصبح طأطأة الرؤوس نهجاً وهدفاً للعيش”‏
قرأت كتاب “نيام بلا مضاجع” للأستاذ “ثروت أباظه”، ويقول‎ ‎أن‎ ‎النفاقَ‎ ‎والتملُّق‎ وموت ‎الضمير‎ ‎هي‎ ‎الآفاتُ‎ ‎الرئيسة‎ ‎التي‎ ‎تصيب أي‎ ‎المجتمع.‏
وكتب الاستاذ وجيه وهبة في مقال ممتاز له في المصري اليوم عام‎ 2018 ‎‏ عن النفاق ، ونوه عن ماكتبه ‏الأستاذ ‏‎»‎فكرى أباظة باشا ‏‎ «‎منذ أكثر من مائة عام تحت عنوان ‏‎»‎فلسفة النفاق‎«‎، يتهكم فيها بطريقته الساخرة ‏على تفشى النفاق فى المجتمع المصرى‎. ‎‏ و يقول: ‏‎» ‎النفاق فن وللمنافقين فلسفة، ويتناول الكاتب بسخرية لاذعة ‏نفاق المجتمع . ‏‎«‎
ويعطي الأستاذ فكري أباظة مثلاً بنفاق الرئيس، الجاهل الغبى السخيف في العمل، الذي تضطر فى كثير من ‏الأحيان إلى مديح رأيه ، وليس رأيه بالصواب، وإلى التنويه بفضله فى حفلات التكريم، وهو لا يستحق التكريم، ‏وإلى تقديم تذكار الإخلاص ولست تشعر نحوه بذرة من الإخلاص.‏
‏ ثم يصل فى النهاية إلى ما سماه أخطر أنواع النفاق‎ ‎ألا وهو ‏‎»‎النفاق السياسي‎«‎فيقول: النفاق السياسى فى جميع ‏دول العالم- وليس فى مصر وحدها- آفة على جميع الدوائر، و هو أبو النفاقات جميعها، وهو الزعيم الذى تتبعه ‏جميع فرق النفاق وطوائفه‎ ‎و أجواقه.. ‏
‏ ويقول الأستاذ أباظة : “المغالطة أخت النفاق”.‏
‏ كان ذلك رأى فكرى أباظة أن النفاق فى أيامه.. ‏‎»‎معول هدم‎«‎‏.. فماذا عن النفاق فى أيامنا؟.‏
‏ المنافقون اليوم مهمتهم أسهل من ذى قبل، ويعتمدون على انحطاط مستوى الفهم لدى النفوس الضعيفة وصار ‏للنفاق أكثر من وصف أحدها هو‎ » ‎المطبلاتية‎ «‎وأشهرهم وصف نزار قبانى ‏‎» ‎المداحين والكورس‎«‎‏. ‏
‏ يقدم توفيق الحكيم فى كتابه ‏‎» ‎تحت شمس الفكر‎«‎‏ اقتراحاً بغية تقليص‎ ‎النفاق أثناء الإنتخابات إلى أدنى حد ‏بتكوين ‏‎» ‎شركة مقاولات انتخابات‎« ‎‏ (وكأنه كان يقرأ المستقبل ، فهذا ما يحدث الآن ) يدفع لها المرشح مقابل ‏أن تقوم بالدعاية له من تجهيز الخطباء ونصب اللافتات وإعداد الولائم وتعظيم ما ليس في المرشح ، وتزييف ‏حقائق الإنجازات، وقلب الباطل حقاً، وقتل المنافس معنوياً وتدمير سمعته . ‏
ويعبر د. ياسر ثابت فى كتابه ‏‎» ‎صناعة الطاغية‎ « ‎عن هذا الوضع قائلا: “ما يقوله المنافق التاريخى لحاكم ‏اليوم، سبق أن قاله لحاكم الأمس، الذى ما إن ترك الحكم، ميتا أو مقتولا أو معزولا، حتى هجاه، أو تنصل منه، ‏بعد أن تحين اللحظة المناسبة للقفز من سفينته الغارقة. ‏
‏ إن أسوأ أنواع المنافقين هو المنافق المتجول، ذلك الذى يجول بين مختلف العهود السياسية- مهما تباينت- ‏وشعاره ‏‎» ‎كن مستعدا‎«‎‏.. مستعد دائماً لأى تغيير فى النظام ، ولقد رأيت ذلك و عايشته بنفسي في انتقال ‏الكثيرين من المطبلين والراغبين في التقرب للسلطة أيام مبارك وهم أنفسهم الذين يفعلون نفس الشئ مع كل ‏سلطة .‏
لكي الله يا مصرنا من ضرر المنافقين وأذي المداهنين ، وأنار بصيرتنا لنراهم و نكشفهم ونتقي شرورهم.‏
يقول الشاعر:‏
لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن
‏ فالقوم في السر غير القوم في العلن
وتقول الحكمة:‏
إذا سمعت انساناً يقول فيك من الخير ما ليس فيك ، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك.‏

May be an image of 1 person

التعليقات

التعليقات