الخميس , 9 مايو 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / علي مقهي الحالمون بالغد “الجانب الآخر من اللوحة” حسام بدراوي

علي مقهي الحالمون بالغد “الجانب الآخر من اللوحة” حسام بدراوي

علي مقهي الحالمون بالغد

“الجانب الآخر من اللوحة”
حسام بدراوي

تتشابه مناحي الحياة ، ولا نعرف كنهها إلا بالمرور في تجاربها وتحمل مشقتها ، وا لتعبير عنها…و التطبيب واحدة من المهن الإنسانية الاستثنائية التي لا مثيل لها والتي يخفف من خلالها الممارس آلاماً ويعالج أمراضاً ويزيل أعراضاً ولكنه بتكرار فعله ، وسهولته بالنسبة الي مهارته قد ينسي الجانب الآخر من صورتها ، جانب أن يكون الطبيب هو نفسه المريض ، أن ينسي كيف يكون الخوف من شكة الإبرة وهي تدخل من الجلد الي الوريد أو الشريان ، والألم من الفتحة الجراحية بعد العملية عند بدء الحركة . وصعوبة ما يفعله كل إنسان ببساطة في يومه ، من أن يأكل ، ويتبول بدون قسطرة أو أن يتبادل الرسائل من علي تلفونه وهوجالس في الحمام ……
عندما ننتقل الي الجانب الآخر من الصورة تتغير الأحوال ، ويري الطبيب أن ما يراه دلعاً من المريض عندما يتخوف و يتألم من تكرار شكة هنا وشكة هناك ، ربما هو أكبر في هذه اللحظة مما يتصوره الفاعل بتكرار فعله..
الإحساس بالرهبة والخوف والألم من فقدان الوعي ، له الوان تختلف تماماً حسب موقعك من اللوحة، بين الرسام والمرسوم.
و في تجربة شاقة ، وجدت نفسي في تجربة معكوسة ، لست فيها الجراح، بل المريض، القَلِق الخائف المتألم ومشرط الجراح يقطع جلدي و عضلاتي ، و بكل ما في ذهني من علم و معرفة بالمضاعفات ونسب الأخطاء المهنية والظرفية ، و مع ثقتي فيمن حولي ، إلا أن هذا الجانب من الصورة علي كل منا، عندما نمر به ،علينا أن نتذكره ، بل ونُعَبّر عنه حتي لا تضييع إنسانيتنا بميكانيكية مهارتنا فلا نري سوي أنفسنا وعلمنا وإحساسنا بقدرتنا كأطباء وننسي أن ذلك ما هو إلا وسيلة لإظهار الرحمة والعون علي الشفاء بإذن الله .

أُعَلم تلاميذي أن شخصية الإنسان ومدي تحضره تظهر عند الألم الشديد والحزن الدافق والرغبة الجامحة سواء كانت بيولوچية أو إنسانية ، وعند الفوز الكاسح والهزيمة المذلة…. قدرة الإنسان علي التحكم في نفسه وردود فعله عند هذه الأحاسيس هي من تحدد من هو، وكيف يبني حدوده لنفسه ومع غيره .

قالت شابة من “الحالمين بالغد ” : إشرح أكثر يا دكتور!!

قلت: من تظنين الأكثر حزناً عند فقدان حبيب !!؟ من يصرخ ويشد شعرة ويلوم من حوله ويرمي نفسه ويؤذيها لبيان حزنه للآخرين أم من يحزن فعلا ويفكر في جمال من فقده وفي حبه ، فيمن يجعل ذكراه أفضل أم من يريد الإنتقام والقتل ليشفي غليله؟
من ترين أكثر تحضراً وكمالاً من يدخل منتصراً فيعفو ويُجَمع أم من يقتل ويفرق ويثير الفتن،!!!

من هو الإنسان الراقي المحترم ، الذي يحترم المرأة ويعلو بها من مجرد رمز جنسي تثير غرائزه أم من يراها أماً وأختاً وزوجةً وإبنةً !؟
من هو الأفضل أخلاقياً ، الذي يريد إخفاءها ويعتبرها سلعة خاصة بذكوريته أم من يراها أصل الحياة وشريكته فيحترم خصوصياتها وفضلها وعلمها..

من الذي ترينه عند الفرح الشديد يطلق الرصاص ويُعلي الأصوات بدون إستئذان ، أهو الأكثر قيمة في المجتمع أم مجرد الأعلي صوتاً ؟!!!

من الذي ترينه الأكثر تحضراً عند الهزيمة، من يهنئ الفائز ، ويعمل ليُحَسن من نفسه ، أم من يتهم الحكم والجمهور في مباراة رياضية لأنهم سبب هزيمته ؟!!!

الانسان المتحضر يعلم أن الله يعرف سريرته ولا يحتاج لإعلان ليُعِلم الآخرين ذلك ، فلا يكون مظهرة ولا ميكروفوناته و لا صراخه هو دليل إيمانه ، ولا يفرض إرادته علي الآخرين ليكونوا مثله ، بل يظهر محبته ورحمته وتسامحه وكمال أخلاقه ، فيكون مثلاً بدون تمثيل ،و بدون ضجيج ولا استعلاء ، و يُكفي الآخرين نميمته وشروره ، ويذّكرهم بأفضل ما فيهم..

تجربة أيام قليلة ، وأنا مع أسرتي وأحبائي وأصدقائي بعد عملية جراحية ليست بسيطة ، أعادتني لنفسي لأفكر في هشاشة جسد الإنسان الذي ما هو الا وعاء لنفسه وروحه ، والذي تظهر قيمته الحقيقية فيما يفعله في هذا الجزء من حياته الذي يعيشه في هذا الجسد .

كل طبيب وراعي ممكن أن يكون مريضاً محتاجاً عندما تنقلب الصورة ، و وكل سجّان يمكن أن يكون سجيناً ومظلوماً ، وكل حاكم هو في الحقيقة محكوماً بما يفعله بسلطته وصولجانه ، وكل ثري بماله هو فقير الا بقناعته والخير الذي ينشره حوله…

الصورة تختلف تماماً حسب موقع كل واحد فينا منها….
الصورة عندي ، في المستشفي الجامعي في مقاطعة .. في المانيا، وأنا في غرفتي في طريقي لإجراء جراحة خطيرة ، هي دقة في الأداء ، إتقان في العمل ، الجميع يكمل بعضه في الفريق ، كل تفصيلة موثقة عن تاريخي الطبي ، الكل يبدأ الساعة ثمانية وخمسة عشر دقيقة صباحاً ، والآلة الألمانية في توافق ديناميكي منجز….والصورة نفسها من موقع آخر ورؤيتي أنا وأسرتي للمرضي في الغرف الأخري ، أغلبهم كبار في السن ، في وحدة وعزلة بلا زوار ولا أصدقاء ، والسكون حولهم ، بلا انفعالات جعلنا ننظر لكل ما ننتقده في مجتمعنا بنظرة أخري.. هل نستطيع الجمع بين الكفاءة والدقة والإنجاز بدون أن نفقد إنسانيتنا؟؟؟؟

هناك صورة أخري يجب التوقف عندها ، تضم جراح قلبي استثنائي ، في السادسة والأربعين من عمره ، ومساعده في منتصف العشرينات… لماذا أتكلم عنه ؟ هذا هو السؤال والصورة ذات الوجهين…هو طبيب ماهر ميمون، منجز ومبدع فيما يفعله، وينظر اليه الفريق الألماني من الجراحين والفريق الطبي بإعجاب واحترام…هو واحد من أحاد في كل المانيا يقوم بتغيير الصمام الأورطي بدون حقن صبغات تؤثر سلباً علي عمل الكليتين ، ويقوم بذلك بالمنظار وبدون اجراء جراحي مفتوح ، وعندما نظرت بدقة الي جدول عملياته من الثامنة صباحاً يوميا وأيام الأجازات الأسبوعية ، وجدت أنه قد أجري أكثر من خمسة آلاف عملية في آخر خمس سنوات بنجاح مبهر ومهارة فائقة ، والعملية مسجلة باسمه ، فهو باحث وعالم محترم….

لماذا أكرر الكلام عنه ، لأنه مصري ، يُنظر اليه بفخر في المانيا ، بلد الإتقان والدقة ، وهو مبدع ومخترع ، وهو في مرحلة عمرية يتبوأ فيها أمثاله القيادة والريادة في بلادهم ..إنه دكتور تامر عويس الذي جمع بين عالم الانجاز ، والعمل في فريق ، وبين الإنسانية وجمال الشخصية المصرية…..

لقد وجدت ضالتي في اللوحة التي أنظر اليها ….إنه تامر وأمثاله من الشباب المصري الناجح العظيم الذين يملأون العالم ، بقصص ترفع الرأس وتعطي مثلاً وأملاً لبلادنا …

لو كان في يدي الأمر لجعلت أمثال تامر عويس وزملاءه. قادة مؤسسات الرعاية الصحية في الجامعات المصرية، نفخر بهم في القصر العيني واسكندرية وعين شمس والمنصورة واسيوط ، بشكل مؤسسي كما فعلت الصين والهند وغيرها من نمازج الدول النامية التي استفادت من أبناءها وأفادت مجتمعاتها بدلا من وضع العوائق أمامهم في بلادهم.
سأحاول أن أجمع الأسماء ، وأبحث في الاداء والمكانة العلمية في كافة دول العالم لأجد عشرات من تامر عويس وأنشئ تطبيقاً يضع مصر علي صلة بهم دوماً وبلا إنقطاع..
الصورة جميلة لأن مصر عظيمة بشبابها ، فلم يبني حضارتها سوي أهلها ، وناسها ،و چينات حضارتها كامنة ولا تحتاج سوي رفع الغمامة عنها.
عظيمة يا بلادي بشبابك ، فلا نستهين بهم و لنعطيهم الفرصة والأمل..

الثلاثاء ٢٢/١١
نسبية الزمن بدأت تتغير حيث كانت الدقائق والساعات تتحرك ببطء شديد، وانا في المستشفي
وسرعتي في الكلام بدأت في العودة الي متوسطها المعتاد بعد وَهَن وبطء،
الألم أقل والحركة ممكنة ولكن ثبت لي بكل المقاييس ان الجسد البشري هش وقليل الحيلة امام المرض والألم .
وما نعتبره تافه قد يكون في لحظة أهم شئ في وجودنا ، كاخراج ريح من امعائنا مثلا حيث يتحول الي أمل ورجاء وتتصاعد اهميته الي تقرير وجود بعد اعتبارنا تفاهته وتجنب الكلام عنه او الإفصاح به.
الأولويات تتحدد بتغير الظروف ونحن من نصنعها ونعيش فيها بارادتنا احيانا و إرادة آخرين في أغلب الأحيان.
نحن عبيد ما نصنعه وعلينا اعادة صياغة حياتنا

اعتقد ان الموت ما هو الا توقف الزمن لهذا الجسد.
وما الحياة الا في تذوق جمالها و بناء حياة لمن حولنا.
عندما نتوقف عن العطاء يبطئ الزمن ثم يتوقف ونصبح بلا قيمة.

التعليقات

التعليقات